11 Dec
ماذا عن الجَمال عند الجزري

ماذا عن الجَمال عند الجزري.. كما رآه (خالد جميل محمد)

‏٣١ يوليو ٢٠١١


في تعريف الْـجَمال:

لم يـبتعد الـجَزَريُّ في تعريفِهِ (الْجَمالَ) عن التعريفات الفلسفية العامة التي ترى في (الجَمال) "صفة تُلْحَظُ في الأشياء، وتبعث في النفس سروراً ورضا"[1] وجاذبـية، كما لم يـبتعد عن التعريفات الصوفية الخاصة التي تَقْصُرُ (الجمالَ) على "نعوت الرحمة والإلطاف من الحضرة الإلهية"[2] على حد تعبـير (ابن عربي) الذي ذهب في (الفتوحات المكية) إلى أن "الله ما خلق العالم إلا على صورته وهو جميل، فالعالم كله جميل..فالجمال له من العالم، وفيه الرجاء والبسط واللطف والرحمة والحنان والرأفة والجود والإحسان.."[3] أو على حدِّ تعبـير الجرجاني (سيد شريف علي بن محمد الحسيني) الذي ذهب في كتاب (التعريفات) إلى أن "الجمال من الصفات ما يتعلق بالرضا واللطف"[4]. كما أنه التقى، في تعريفه (الجمالَ)، بأشد التعريفات غَوْراً في صوفيتها، من حيث نَـعْت الجمال بأنه صفة أزلية لله وهي صفةٌ "مشاهَدَةٌ في ذاته مشاهدةً عِلْمِيَّةً، فأراد أن يراه في صنعه مشاهدة عَيْـنِيـَّة، فخلق العالم كمرآةٍ شاهَدَ فيه [في العالم] عينَ جماله [جمالِ الله] عَياناً"[5]. وهذا هو الموقف الصوفي المتفلسف الذي انطلق منه وسَـبَر حقيقةَ الجمال وعلاقـتَه بالجلال واللذة والسعادة. قال:

Di stiwa-ê ku ji husna te veda lami'ekî

(نظرُ الشمسِ من الشرق إلى الغَرْب دَلَكْ)

Afîtabê ku ne teswîri ji husna te bitin

(نـورها في نـظري ظُـلمة داجٍ وحَلَكْ)

[384-العقد الجوهري]

[عندما أضاء من حسنك في حالة الاستواء والكمال ضياءٌ، اضمحلَّ نور الشمس وغرب تماماً؛ فالشمس إنْ لم يكنْ حسنُها مصوَّراً من حسنك فإنَّ نورَها في نظري ظلمةُ ليلٍ معتمٍ شديدِ الظلامِ] 

نوعا الجمال:

كما أن الجزري فرَّق بين نوعين من الحب: الحب الروحاني، والحب الجسماني، كذلك فرَّق بين نوعين من الجمال: أحدهما طبـيعي محسوس، والآخَر إلهي مُطْلَقٌ لا يُدرَك بالحواسّ أو العقل، وكان الصوفية قبله قد أسهبوا في هذا التقسيم الذي نصَّ على أن الجمالَ قسمانِ: "حقيقي وصوري، فالجمال الحقيقي صفة أزلية لله...وقد شاهده الله في ذاته مشاهدة عِلْمِيَّةً، فأراد أن يراه في صنعه مشاهدة عَيْنِيَّةً، فخلق العالم كمرآة تعبـير عن الحسن المطلق الإلهي. والقبيح في العالم كالمليح منه لأنه [العالم] مَجْلى الجمال الإلهي...فالوجود كله صورةُ حُسْنِ الله ومَظْهَرُ جمالِه. والتأمل في جمال الكون سبـيلٌ إلى الاهتداء إلى الجمال الحقِّ عن طريقِ العاطفة والقلب.."[6].

أما الجمال المحسوس في الطبـيعة والكون فهو مَظْهٌر مُقَيَّدٌ، لأنه مُحْدَثٌ، عرَضيٌّ، يتوقف على تجلي الجمال الإلهي في صور الأكوان والموجودات، وأما الجمال المطْلَق فهو الجمالُ الإلهيُّ الذي لا يقيَّد بزمان أو مكان، فهو أزلي قديم كامل، سرمديٌّ، لم يفتقر إلى علة، لأنه واجب الوجود بذاته، ولهذا فإن المحب ينـزع باستمرار إلى بلوغ هذا الجمال الحقيقي السامي، نِشداناً للمعرفة التي تتطلب الحبَّ باعتباره أول شرط من شروط السلوك الروحي عند الجزري. ولعله -في تقسيمه هذا- يذكِّر بإشارة (أفلاطون) "في محاورة فايدروس إلى ما نعته بالجمال الجزئي في مقابل الجمال الحقيقي المطلق الذي يمثل عنده الصور الكلية والماهية العامة، وقد تناول هذه الفكرة ذاتَها بالتحليل في محاورة المأدبة، حيث تأمل الجمال بوصفه ماهية مطلقة ثابتة أزلية"[7] وقد عبّر الجزري عن رؤيـته تلك بطريقتين:

في إحداهما اتخذ مظاهر الجمال المحسوس رموزاً للجمال الإلهي، أو سبـلاً إليه، على مبدأ أن الجمال المحسوس هو صورة الجمال الإلهي في الكَوْن، وأن الموجودات مَجْلى نعوت ذلك الجمال النوراني اللطيف، ويمكن أنْ يتوسَّل المريدُ بالجمال الطبـيعي ليـبلغ الجمال الإلهي، أو ليرى تجليات أنوار الجمال الإلهي في مِرآة ذلك الجمال الطبـيعي الذي تَـمَثَّلَ حِـيْناً في صور الإنسانِ أو في صور أصنام الجمال لما ينعكس عليها من علاماتٍ، قال:

Muhbeta mehbûb û latan   pur vekir zîwer sifatan

Daye qelb û rûh û zatan roj di mir-atê xuyaye 

[531-العقد الجوهري]

[إن محبة المحبوبات وأصنام الجمال قد فتحت كثيراً من المصاريع أمام الصفات الجميلة، فأشرقت أنوار المحبة على القلبِ، والروحِ، والذاتِِ كأنها شمسٌ متجلية في المِرآة]

فالجزري رأى أن كل جمال في العالم هو مجازيٌّ في مظهره، لكنّه، في جوهره، وفي عين الحقيقة والتحقيق هو عينُ الجَمال الإلهي الذي رأى في مذهبه -في الجمال- أنَّ وجودَ العالَم بجماله هو عينُ وجودِ الله بجماله، وقد سار في ذلك على نهج (ابن عربي) الذي رأى أنَّ الحقَّ ليس له مَجْلى "إلا العالَم، فإنه أوجده على صورته، فالعالم كلّه جماله ذاتي، وحُسْـنُه عيـنُ نفسِه، إذْ صَنعَهُ صانعُه عليه"[8] تجسيداً لمبدأ الوحدة المطْلَقة التي ظلَّ ينادي بها الجزريُّ على امتداد خطابه الشعري الصوفي ذي النـزعة الفلسفية التي لامستْ مسائل الألوهية والكون والوجود. فليس التأمل في جمال الحسناوات وملكات الجمال سوى سَعْيٍ إلى التقرب من خالق ذلك الجمال المجازي، قال:

Ev hûr û perî çehre but û latê cemalê

Der sûretê tehqîqê (Mela) 'eyni mecaz in 

[440- العقد الجوهري]

[هذي الحوريات اللواتي يظهرن في مظهر أصنام الجمال، هنَّ في صورة التحقيق (يا ملا) عَـيْـنُ المجاز]

فالجمال الطبـيعي في صورة التحقيق ليس إلا عينَ المجاز، أو ليس إلا فيضاً من جمال الله، بل إن الجمال الطبـيعي يستمد قيمته من الجمال الإلهي الحقيقي. فقد كان واجبُ الوجودِ ولم يكنِ العالَـمُ، وكانَ الجمالُ الإلهيُّ المطلَقُ، ولم تكن مِرآةُ (الـخَلْق) التي تنعكسُ في صفحتها علاماتُ أنوارِه، وكان (الكَنْـزُ مخـفياً) حيث أحبَّتِ الذَّاتُ جَـمالَها وشاهدتْ ذاتَها بذاتِها لِذاتِها في تعيُّناتها المثالية المنَـزَّهَةِ عن التعيُّن في المكان والزمان، في الـ (متى؟) والـ (أين؟) كما يذهب الصوفية، وبعض الفلاسفة المسلمين، وكما سار الجزري على مذهبهم قائلاً:

Ellah sehergaha ezel     yelmûmi 'işqê şu'le da 

Nûra cemala (lem yezel) zatê tecella ya xwe da 

Zatê tecella bû li zat bê ism û ašar û sifat 

Sirra hurûfên 'aliyat xef bû di sitr û perde da

Zatê muqeddes bû wucûd coşiş ne dabû behri cûd 

Wesf û idafat û quyûd yek jî tecellayî neda 

 [847- العقد الجوهري]

[منذ سَحَر الأزل أشعل الله سراجَ العشق، وقد أظهرت الذاتُ تجليَها من نور الجمال الأبدي،وتجلت الذات بلا أسماء أو آثار أو صفات، حيث اختفى سِرُّ العالم العلوي وراء حجب وأستار الغيب؛ فالذات المقدَّسة كانت موجودة قبل أن تتحرّك وتفيض الموجودات بجود تلك الذات، ولم تكن بعدُ قد ظهرتْ وتجلت أيُّ إضافات أو قيودٍ]

وفي البيت الثاني احتمالات:

الاحتمال الأول: أن تكون (bû) مشدّدةً (بالنبْر عليها) فتكون عبارة(Zatê tecella  li zat) بمعنى تجلت الذات للذات.

الاحتمال الثاني: أن تكون (bû) لاحقة مع (tecella) فتكون (Zatê tecellabû li zat) تجلت تجلياً أزلياً للذات.

الاحتمال الثالث: أن تكون الكلمة بـ (o) على النحو التالي: (bo): (Zatê tecella bo li zat) تجلت الذات للذات؛ أي من أجل الذات.  

فكان التجلي الأول هو تجلي الذات للذات، ثم تجلي الذات في عالم المعاني بالآثار والصفات، ثم تجليها في الهباء، ثم في عالم العناصر. ولعل الجزري تأثر بابن عربي الذي استمد نظريته في "الأعيان الثابتة" من نظرية أفلاطون حيث رأى (ابن عربي) أن المخلوقات التي يُطلَق عليها اسم العالم الظاهر، لها - من حيث ثبوتها في العلم الإلهي- وجود سابق على وجودها المحسوس، وأنها من هذا الوجه صور أو أحوال في العقل الإلهي وفي الذات الإلهية، إذ العقل الإلهي والذات الإلهية حقيقة واحدة.. وليس للأعيان الثابتة وجود مستقل زائد على الذات الإلهية بأكثر مما لأفكارنا من وجود مستقل زائد على عقولنا...ليس في الوجود سوى الذات الإلهية وهذه الأعيان الثابتة. أما ما نسميه بالعالم فليس إلا المرآة التي تنعكس عليها الأسماء الإلهية وتتحقق فيها الأعيان الثابتة[9]. 

في وجودِها الواجبِ - الذي انتقل من (الوجوب) إلى (الإمكان)- (أرادت) الذاتُ الإلهية أنْ تُعرَفَ، فـكانَ الكَوْنُ بأمـر "كُـنْ"، وكان (الخَلْقُ)، وكان التـنَـزُّل في (الإمكان)، والانتقال إليه من الواجب، قال:

Ji sirra la mekan wacib     ienezzul kir di imkanê

(فأين العِلْمُ؟ أينَ العَيْن؟ وأين الأينُ إذْ لا أيْنْ؟)

[443- العقد الجوهري]

[من سرِّ اللامكان تَـنَـزَّلَ واجبُ الوجود في الإمكان، فلولا ذلك التـنـزُّلُ أين عِلمُ اليقين بواجب الوجود؟ وأين عين اليقين به؟ وأين المكان الذي يتمكَّن فيه الواجبُ حيث لا مكان؟]

اقتضت الحكمة الإلهية أن يَتَنـزَّل الله - المكنونُ في غَيْبِه، غيرُ المفتقر إلى غيره - من الوجود الواجب بـذاته، القديمِ، الأزليِّ- إلى الوجود الواجبِ بغيره، الممكنِ، المحدَثِ، العرَضيِّ، انتقالاً تحققت فيه الوحدة بين الحقِّ والخلق، حيث كان اليقينُ بوجوده الواجبِ بذاته مُـحالاً عِلْماً وعَـيْناً: محالاً علماً بالنظر والاستدلال والبرهان، لأرباب العقول، ومحالاً عَـيْـناً عن طريق المكاشفة والبـيان والمشاهدة بالبصيرة القلبـية، لأصحاب العلوم على حدِّ تعبـير القشيري في (الرسالة) [10] والجرجاني (سيد شريف علي بن محمد الحسيني) في (التعريفات)[11] نقلاً عن (ابن عربي) الذي ذكر في (الفتوحات المكية): أن علم اليقين هو ما أعطاه الدليل الذي لا يقبل الشبهة، وأن عين اليقين هو ما أعطته المشاهدة والكشف[12]، وحيث لم يكن - قبلَ أمـرِ (كُـنْ) - نسبةٌ إلى مكان يتمكَّن فيه واجب الوجود لتـنـزُّهِهِ عن التمكُّن بمكانٍ هو خالقُه، كان لا بدَّ من ذاك التنـزل ليتحقق الإنسان من الوجود الواجب بِعِلْم اليقين أو بِـعَـيْن اليقين.

والانتقال من المجاز إلى الحقيقة هو انتقال من العلم إلى العين، انتقال مما (أعطاه الدليل) غيرُ الإلهيِّ، إلى ما (أعطته المشاهدة) بظهور ذات الحقِّ بصفاتها، ولهذا رأى الجزري أن نور الجمال ينـتـقل من العلم إلى العين حيث لا حقيقة دون مجاز، وهو ما صرّح به قائلاً:

Lami'a husn û cemalê dê ji 'ilmê bête 'eyn

'işqi da jê hilbitin kê dî heqîqet bê mecaz 

 [263- العقد الجوهري]

[يـنـتقل نور الحسن والجمال من العلمِ إلى العين، حتى ينبعث العشق. فمن رأى الحقيقة دون المجاز؟!]

لعل شدة تعلقه بهذا الجمال السامي هو الذي دفعه إلى احتقار من يتعلق بالقبح ومظاهره؛ والقبحُ  - رغم وجوده النسبي- صفةٌ وضيعةٌ تخلق النفور وتهبط بالمتعلق بها إلى مراتب الحيَوانية البهيمية التي لا تميز بين جميل وقبيح، قال:

Camid çikin bi husnê ku wan nezer li xwar e?!

Xer teb'etên di ebleh çi nêrgiz û çi kerbeş?! 

Kor e xwe nasipêrit carek, bi dest delîlan 

Ebleh çi kit tewafê nabînitin berê reş?! 

Bêzî dikit ji qencan ji remz û naz û xencan 

Qedrê gulan çi zanit kerbeş divêt kerê reş?! 

[296- 297- العقد الجوهري] 

[جامدو القلب ماذا يفيدون من الحسن إنْ كانوا يتطلعون إلى ما هو وضيع؟ فالحمار طبعه بهيمي لا يميز بين النرجس والنـبت الشائك. إنه أعمى لا يسلم نفسه للمرشدين، فهو - في عمى بصيرته - كالأبله الذي لا ينفعه الطواف ما دام لا يـبصر الحجر الأسود. إنه يهرب من الرموز والمِلاح الحسانِ ذوات الغنج والدَّلال، شأنه في ذلك شأن الحمار الذي لا يعرف قيمة الورد، فيقصد نبات (الكَرْبَش) الخشنَ الشوكيَّ] 

كأنه يريد بذلك أن الأبله يتهرب من الرموز التي كنى بها عن العلم ومن الحسان التي كنى بها عن العين، فلا يكون جديراً بالحب والمعرفة. 

هذا الجمال السامي هو الذي جعله الجزري غايـته النهائية، وهو الجمال الذي ظلَّ يقصده؛ ولا قيمة لأي جمال لا يكون قنطرة إلى ذلك الجمال. وقد رأى أفلاطون أنَّ المرء يـبلغ في الحب مستوى رفيعا ًبعد أنْ يكون قد تملّى جمال الأشياء في تتابع منتظم، وأنه سيرى فجأة جمالاً من طبيعة مدهشة، وهذا "هو الجمال نفسُه الذي كان غاية جميع أعماله السابقة، الجمال الخالد الذي لا يعرف لا الولادةَ ولا الموت، والذي لا يحتمل الزيادة ولا النقصان...يـبدأ المرء بنماذج الجمال في هذا العالم، يجعلها درجات يرقى بها، جاعلاً غايته ذلك الجمال الأسمى المطلق.."[13]. فالإنسان – كما جاء في مأدبة أفلاطون- يصعد من إدراكه الجمالَ المحسوسَ إلى الجمال في العلوم المجردة إلى الجمال المطلق الأبدي الخالد[14].

لا مقصد من التعلق بمظاهر الجمال الطبـيعي في العالم سوى بلوغ ما هو أكثر سمواً منه، وهو ما عبّر عنه الجزري بمثال التعلق بالحسناوات اللواتي شغفن قلبه، لكنه توسّل بهنَّ لتحقيق مرامه في ذلك البلوغ، قال:

Ne cemala te tecellî bikirit

Me ji xoban bi cemalê çi xered?!

 [316- العقد الجوهري]

[إنْ لم يكن من أجل تجلي جَمالك فأي غرض لنا من جمال الحسناوات؟!] أو [إنْ لم يكن جمالك متجلياً في الحسناوات، فأي غرض لنا منهن؟!]

أما الطريقة الأُخرى فقد كانت تعبـيراً مباشراً عن تعلقه بالجمال الإلهي، حيث استخدم فيها عبارات ومصطلحات واضحة الدلالة في هذا المجال، فوصف الجمال بالأزلية، وبيّنَ أنّ العشق الذي يلازمه هو عشق أبدي استدعاه واستوجبه هذا الجمال، وأكّد أنَّ التعلقَ بصور الجمال تجسيد للحبِّ، حيث لا جمال بلا حُبٍّ، ولا حبّ بلا جَمال، غير أن الحبَّ يتوقف على طبـيعة الجمال الذي استوجبه، فإنْ كان الجمال مُحْدَثاً، ناقصاً، عَرَضيّاً وقابلاً للزوال، فالحب سيكون محدَثاً، ناقصاً، عَرَضياً وقابلاً للزوال، لأن المعلولَ يتوقف على علَّته، والنتيجةَ تتوقف على أسبابها، وهذا ما أكده الجزري عندما رأى أن مبدع الحسنِ الأزلي نصب شِراك صيده حتى يندلق العشق موجاً موجاً على مرِّ الأزمنة، الأكوان والأجيال دون افتقار إلى وسيط، حيث يفقد القلبُ الاختيارَ بتأثير العشق الذي أوجب تلك الحالَ، وهي حال انشغل بها الجزري عمّا سواها، قال:

Meşşate ê husna ezel çengalê zulfan tabi da

Da 'işqi hilbit pêli pêl qelbê me bê cellabi da

Husna hebîb û lutfi yar avête dil 'işqa xedar 

Lew selbi kir jê ixtiyar wê husnê ev îcabi da

[14-15- العقد الجوهري]

[مزيِّن الحسن الأزلي نصب الزلف المعقوفة شراكاً، حتى يندفع العشق موجاً موجاً فيوقع قلبنا دون جلاّب أو وسيط. إنَّ حُسْنَ الحبيب ولُطفَه ألقى العشق الشديد في القلب فأفقده حرية الاختيار. فذاك الحسن أوجب هذا الأمر] 

خالق الجمال الأزلي أبدع في خلقه، وكان الحب حيث كان الجمال، أزلاً وأبداً، فهما متلازمان، على حد تعبـير (ابن عربي) في قوله: "إن الحب سبـبه الجمال وهو له، لأن الجمال محبوب لذاته والله جميل يحب الجمال، فيحب نفسه"[15].

ما سعى الجزري إلى التأكيد عليه أن الحسن كان أزلياً، وأن الحب كان كذلك أزلياً، ولم يكن ذاك الحقُّ - بوصفه جميلاً كاملاً مُنَـزَّهاً- مفتقراً إلى حسنٍ آخر، وهو ما تثبته الأدلة والبراهين القاطعة التي لا ريب فيها، في رأي الجزري، حيث قال:

Husn û mehebbet her hebû

(Heq) 'aşiqê zatê xwe bû

Muhtaci husnek dî nebû

Neql û riwayet pê we da

[848- العقد الجوهري]

[الحسن والمحبة كانا موجودَيْنِ أزلاً وكان الحق عاشقاً ذاتَه، ولم يكن محتاجاً إلى حسن آخر؛ وعلى هذا نصّ كلٌّ من النقل والرواية]

هامَ الجزري بجمال الروح اعتقاداً منه أن في ذلك سبـيلاً إلى التأمل الصوفي الذي يحقق الغاية القصوى من السلوك الروحي للمُريد الذي يجهد ليكون عارفاً تنكشف على قلبه أنوار جمال الذات الإلهية، وتُرفع عن بصيرته الـحُجُبُ التي تَحُول بـيـنه وبين بلوغ غايته في التمتع بمشاهدة علامات اللطف والرأفة والرحمة والجاذبـية التي يجمعها مفهوم الجمال ويشتمل عليها.

وقد اقترن الجمال الإلهي بالجلال والسكر أيضاً، حيث يُحْدث الجمال أثراً فاعلاً في نفس المحب، فيطرب المحبُّ منتشياً بسكرٍ يهزُّه من باطنه، ويندفع به منجذباً نحو محبوبه، قال الجزري واصفاً تلك الحال:

Reng û reng ehlê meqamatê terîqê çûne seyr 

Hin cemal û hin celal û sermeyan ev bade bû

[618- العقد الجوهري]

[إن أهل مقامات الطريق سلكوا السّيرَ نحو المحبوب الحقيقي بطرق وألوان كثيرة، فمنهم من سلك الطريق خوفاً من الجلال، ومنهم من سلكها حباً بالجمال، وجميعهم اتخذ خمرة المحبة رأسمالاً في طريقه]

ومادام الجمال هو تجليه لذاته، فإن لجماله المطلق جلال هو قهّاريـته لكلٍّ عند تجليه بوجهه، ولهذا الجمال جلال هو احتجابه بتعينات الأكوان. فلكل جمال جلال، ووراء كل جلال جمال[16]. وهذا ما أراده الجزري من التأكيد على أن الحسْنَ صُوِّرَ من الحبِّ، وأنه عصيٌّ على الإدراك بالفكر والإحساس، قال:

Husna ji 'işqê sewwirî xaret kirin hûr û perî 

Herçî di kunhê fikkirî ew ma di 'icz û hîre da 

Ew sûretê mir-atê husn jê bû zuhûr ayatê husn 

Lê bû tecella zatê husn vê husnê ew serçeşme da 

[863- العقد الجوهري]

[الحسن الذي تمَّ تصويره من العشق، نزل على الحور العِيْنِ وحسان الجانِّ، وكلُّ من تفكّر في كُنْهِ ذاك الحسْنِ، فإنه بقي في العجز والحيرة أبداً. فمن صورة مرآة الحسن تلك، انبعثت آيات الحسن، وعلى مرآة تلك الصورة تجلّى الحسنُ ذاتُه. فهذا الحسن المطلق الكامل هو مَعين ومصدر أيِّ حسن آخر]

الجمال المقدّس:

رأى الجزري أنَّ الجمال المقدّس قَدَّرَ له حُكْمَ التجلي أنْ ينقسمَ إلى قسمين: الأول منهما: العقْلُ والروح العظمى، وسراجُ ونورُ العالم، وحوّاء أمُّ الوجودِ، ونَقْشُ آدمَ أبي البشر، ظهر بلا مُدَّة محدودة وبلا مادة محدّدة ينسب إليها، والقسم الثاني من قسمَي الجمال المقدس: هو النفْس الكلية، وهو جمال مقدَّسٌ سامٍ، وهو ملازم الروحَ في الأصالة، إذ تلازما في إظلال ما سواهما في الكون، قال:

Tey kir di nêv tuxra yê ism

Teksîri kir herfên tilism

Husna muqeddes bû du qism

Hukmê tecellayê we da 

Yek 'eql û rûhê e'zem e

Misbah û nûra 'alem e

Hewwa û neqşê Adem e

Bê muddet û bê madde da 

Ê dî ku (nefsa kulli ye)

Husnek muqeddes 'ali ye

Ew jî bi rûh ra esli ye

Wan herdû hevra saye da

 [869- العقد الجوهري]

[أخفى الكاتب (الله) الاسمَ في طيات الطُّرَّةِ الملوكية، وكسّر حروف الطلسم، وبذلك انقسم الحسن المقدَّس إلى قسمين: أحدهما هو العقل والروح العظمى، وهو مصباح العالَمِ ونوره، وحواء ونقْشُ آدمَ المخلوقِ بلا مدّة محدَّدةٍ وبلا مادّة محدّدة يُنسبُ إليها. والقسم الآخَرُ هو النفْسُ الكلّيّة، وهي نفْسٌ مقدَّسة عاليةٌ، وهي تلازم الروحَ في الأصالة، فَهُما معاً قد شكلا هالةً نورانية]

تجلَّتْ أسمى صورِ ذاك الجمالِ الحقيقي المُقَدَّس الذي قصده الجزريُّ في الإنسان الذي يدخل في تكوينه - إلى جانب العناصر المادية- عنصر خامس روحاني، هو عنصر المحبة، وهذا التأكيد تكرر في أكثر من موضع في شعر الجزري الذي صرَّح بأن جمال الإنسان هو قَبَسٌ من جمال الله الذي نعته بأنه (الجمال المقدس)، وخاطبه بأنه الروح التي استمد منها قبساً من نُورٍ، أو أنه قبسٌ من ذلك الجمال، قال:

Cana ji cemala te muqeddes qebes im ez

Ger xob û perîzade nezerkî te bes im ez

Mišlê mehê new ger te divêtin me bibînî

Mêze bike camê tû dizanê çi kes im ez

[251- 252- العقد الجوهري]

[أيتها الروح! أنا قبس من جمالك المقدّس، فإن كنت حسناء حوريةً، فإن نظرة واحدة منك تكفيني، وإنْ كنت ترغبين في مشاهدتنا في هيئة الهلال الجديد، فانظري إلى كأس القلب، حينها ستعرفين مَنْ أنا] ويحتمل أنه أراد في عجز البيت الأول: [إن كنت حسناء حورية فإنَّ فانظري فأنا وحدي أكفيك من المحبين]

لكنه رأى أن كلاً من قسمي الجمال هو مرآة لذات الآخَر، ولكنهما في الحقيقة فرع وأصل يميل كلّ إلى الآخر بالوصل، ولا يفترقان ولا ينفصلان تمشياً مع حكم الوصْل، قال:

Ayîne ê zatê yekin

Lew dilber û latê yekin

Vêkra di mir-atê yekin

Hem taze taze 'işwe da

Ew tên bi cem' fer' û esil

Ma-il dibin vêkra b wesil

Nabin ji yek ferq û fesil

Hukmê wisalê pê we da 

[870- العقد الجوهري]

[وكلٌّ من الْحُسْنَينِ مرآةُ ذات الآخَرِ، لذا فإن كلاً منهما هو محبوب للآخَر ومعبودٌ أيضاً، وكلٌّ منهما يظهر في مرآة الآخَر، ويُظهِر حُسْنَه ودلالَه للآخر. إنهما يجتمعان فرعاً وأصلاً، ويميلان معاً ( كلٌّ منهما إلى الآخر) في الوصل، فهما لا يفترقان ولا ينفصلان، فقد نصَّ حكم الوصال على ذلك] 

وإذ اتصل قسما الجمال واجتمعا انبعث من بينهما بريقان مضيئان فأضاءت من الأرواح شمعتان واشتعلت شعلة النفوس، كما أن قبساً من الأرواح اشـتعل فأدى ذلك إلى توهُّجِ شُعَلٍ كثيرة في الأقفاص المنوَّرة حتى تنفست النفوسُ بالعشق وصرَّحت القلوب بالحبِّ، قال:

Vêkra ku bûne wesl û cem'

Barîn ji ma beynê du lem' 

Îsa ji erwahan du şem'

Şem'a nufûsan şu'le da

Îsa ji erwahan qebes

Pur şu'le tên nûrîn qefes

Nefsan bi 'işqê da nefes

Qelban bi hubbê lehce da 

[870- العقد الجوهري]

[وعندما حققا الوصل والجمعَ انبعث من بينهما بريقان لامعان، فتوهجت من الأرواح شمعتان، وبذلك أضاءت شمعة النفوس، وتوهج من الأرواح قَبَسٌ، فاندفعت شُعَل نورانية كثيرة على الأقفاص  لتشعَّها، فتنفَّست النفوسُ بالعشق واكتسبت أنوار الحياة، ولهجت القلوبُ بالحبّ] 

 

 

 

[1]- الصحاح: 209

 

[2]- معجم المصطلحات: 68

 

[3]- الفتوحات المكية: 542/م2

 

[4]- التعريفات: 82

 

[5]- معجم المصطلحات: 68

 

[6]- ليلى والمجنون: 9

 

[7]-  الرمز الشعري عند الصوفية: 101

 

[8]- الحب والمحبة الإلهية: 34

 

[9] - فكرة الألوهية/ط3: 304

 

[10] - الرسالة القشيرية: 45- 46

 

[11] - التعريفات: 162و166 و289

 

 [12]- الفتوحات المكية: 570/2

 

 [13]- العشق الجنسي والمقدّس: 150- 151

 

[14] - فكرة الألوهية/ط3: 177- 178

 

[15] - الفتوحات المكية: 326/2

 

[16] - معجم المصطلحات: 68

تعليقات
* لن يتم نشر هذا البريد الإلكتروني على الموقع.
تم عمل هذا الموقع بواسطة