11 Dec
ما قاله الجزري عن مرآة الجمال الإلهي

ما قاله الجزري عن مرآة الجمال الإلهي... كما ذهب إلى ذلك (خالد جميل محمد) في كتابه (الجزري شاعر الحب والجمال)

‏٣١ يوليو ٢٠١١‏

مرآة الجمال الإلهي:

أبصرَتِ (الحضرةُ الإلهيةُ) نَفْسَها في مرآة الخلق، وبخاصة مرآة الإنسان القابلةِ لتجليها [تجلِّي الحضرة الإلهية] فيها، بحسب ما عبَّر عنه (ابن عربي) في (ترجمان الأشواق) حيث وصف مقام رؤية الحقِّ في الخلق فقال على لسان المحب الذي قال للحضرة الإلهية التي تعجَّـبَتْ من محاسنِ صَبٍّ قال لها [أي للحضرة الإلهية] إثْرَ ذلك التعجُّبِ: لا تعجبي [أيتها الحضرة الإلهية] مـمَّنْ ترَينَ فإني لكِِ كالمرآة، وهذه أخلاقُكِ التي تخلّقْت بها، فنفسَك أبْصَرْتِ لا أنا:

إنّي عَجِبْتُ لِصَبٍّ مِنْ مَحاسِـنِـهِ   تـختالُ ما بين أزهارٍ وبـستانِ

فقلتُ: لا تعجبي مـمّنْ تَرَيْنَ، فَقدْ        أبصرتِ نفسَكِ في مرآة إنسانِ[1]

الموجوداتُ هي مَجالي الجمال الإلهي الذي هو جمال روحاني نوراني لطيف، لا يدرك و"لا تحيط به الفكرة" حيث لمع نور حسنه في العالم كلِّه، واستغرق هذا النورُ الأكوانَ كلَّها، وملأ الوجودَ بأكمله، فهو كامل لا ينقصه واحدٌ من نعوت الجمال أو الجلال، ومُطْلَقٌ لا تحيط به ظروف الزمان أو المكان. والمحب الذي ينشد بلوغ ذلك الجمال ينـتقل من عالم الجمال المجازي إلى عالم الجمال الحقيقي، للتمتع بمشاهدة علامات ذلك الجمال الحقيقي، بعد أن يكون قد تجاوزَ الجمالَ المجازيَّ الذي يفقد قيمته في حضرة الجمال الحقيقي الكامل. والصوفي السالك يرتقي المقامات ليـبلغ ذورتها، وينـتقل من المجاز إلى الحقيقة بعد أن يُـتقن أصول ذلك الانـتقال، ويحقِّقَ شروطَه، إذ ليس كلُّ محبّ أهلاً لأنْ يكونَ عارفاً في الحقيقة، فانياً عن ذاته باقياً في ذات محبوبه، منشغلاً بمحبوبه عمّا سواه، فمن لا يكون جديراً بالعرفان وأهلاً للفناء عن صفاته المجازية لن يـبلغ حقيقة محبوبه، قال الجزري:

Salik kiye hatî ji mecazê bi heqîqet 

Sûret ne şunasiy û bi me'na ne fena girt!? 

Tenha ne li min lami'i husna te şefeq da

'alem bi xwe wê husn û cemalê di xwe da girt! 

[114-  العقد الجوهري]

[أيُّ سالك انتقل من المجاز إلى الحقيقة وهو لم يعرف (الصورةَ) ولم يفنَ في (المعنى)؟. لستُ وحدي مَنْ أشرق عليه نورُ حُسنِكَ، فالعالم كلّه قد أنير وامتلأ بنور ذلك الحسن والجمال!]

العلاقة التي قصدها الجزري هي العلاقة بين الصورة والمعنى، وهي نفسها العلاقة بين الباطن والظاهر، حيث المعنى انعكاسٌ وتمثيل للباطن، وحيث الصورة تمثيلٌ للظاهر، وذلك كله يمثِّل العلاقة بين الحقيقة والمجاز، فكما أن المجاز طريق إلى الحقيقة، كذلك الظاهر طريق إلى الباطن، والعقل طريق إلى القلب، ومدخل له. أما من يقف عند حدود العقل أو الظاهر أو المجاز فإنه لن يبلغ ما يقابل كلاً منها. فالمعنى مكمِّل الصورة، كما أن الروح مكمِّل الجسد، وكما أن القلب مكمِّل العقل، وبين كل من تلك الثنائيات برازخ متنوعة بتـنوعها.

الإنسان، في ضوء هذه الرؤية، يقوم على ثنائيات، وهذه الثنائيات إلهيةٌ،  وإنسانيةٌ كونيةٌ، إنه يجمع الموافقة والاختلاف بين كونه [أي كَوْنِ الإنسان] كاملاً وناقصاً في الوقت ذاته؛ بين كونه إنساناً، وكونه جامعاً لحقائق إلهية وحقائق كونية معاً، وهي رؤية التقى فيها الجزري مع (ابن عربي) الذي سبقه في هذا الرأي إذ قال بأن الإنسان: "من حيث حقيقته وباطنه على الصورة الإلهية، وجامع لحقائق الأسماء الإلهية التي توجهت على إيجاد العالم. وهو من هذه الزاوية خليفة لله، ومثل له، وموجود أول، وإنسان كامل. وهو من حيث طبيعته الجسمية العنصرية على صورة الكون، وجامع لحقائقه، وهو من هذه الزاوية مخالف لله...وليس العالم بكل مراتبه إلا مجالي ومظاهر لحقائق الألوهة. وهذه الحقائق توجد متفرقة في العالم، ولكنها تجد مَجْلاها الأكملَ الجمعيَّ في الإنسان. فجمع الإنسان بين حقائقِ الألوهةِ وحقائقِ الكَوْن، وهنا يزول التعارض لأن الكون نفسَه ليس إلا ظهور الأسماء الإلهية من حالة البطونِ"[2] وهو ما أراده الجزري بقوله: إن السالك ينتقل من معرفة الصورة إلى معرفة المعنى، حيث الكلمة هي الصورة والمعنى معاً، وهما مكوّنان للكلمة.

فليست الكثرة الظاهرة للعيان في العالم سوى وحدة في باطنها، وقد استوعب الجزري هذه النظرية التي تَمـيَّزَ في حملِ لوائها (ابنُ عربي)، فاجـتهد الجزري، تأثراً به، ومضى في تأويله الخاص لآية خَلْقِ الإنسانِ "في أحسنِ تقويم" حيث بـيَّن أن علّة خلق الإنسان (في أحسن تقويم) - بالإضافة إلى عنصر الحبِّ- هي أن الإنسان جمع بين جانب مادِّيٍّ كَوْنيّ، وجانب روحيٍّ إلهيّ؛ والإنسان بذلك هو الْـمِرْآةُ التي تنعكس في صفائها صورةُ الذاتِ الإلهيةِ، قال:

Bi husna ehsenitteqwîm û zahir sûretê zatî 

Nezer dî ('ellemel esma)[di] batin 'eynê miratî 

[119- مخطوط سيدايى حج موسى ] [260- دوسكي][699- العقد الجوهري][3]

[إنّ حسنَ المحبوبة الذي هو حُسْنُ الإنسان في (أحسن تقويم)، وظاهرَها الذي هو صورة الذات الإلهية، هو (ذلك الحسْن) وَفْقَ آية (علم آدم الأسماء كلها)؛ فهو في ظاهره حسن إنساني، لكنه في باطنه وحقيقته عَيْنُ المرآة التي تعكس جمال تلك الذات الخالقة]. 

أما استشهاده بقوله: (علم آدم الأسماء كلها) فهو على سبـيل التذكير بما وُهِبَهُ (آدمُ) من تشريفٍ وتكريمٍ نالَ به التقدمةَ على الملائكة بكونه علَّمهم ما كانوا لا يعلمون، وهي الأسماءُ الإلهيةُ "التي توجَّهت على إيجاد حقائق الأكوان، ومن جملتها الأسماء الإلهية التي توجَّهت على إيجاد الملائكة، والملائكةُ لا تعرفها، ثم أقام المسمين بهذه الأسماء، وهي التجليات الإلهية التي هي للأسماء كالمواد الصورية للأرواح، فقال للملائكة: أنبئوني بأسماء هؤلاء - يعني الصورَ التي تجلى فيها الحقُّ- إنْ كنـتم صادقين...فقالت الملائكة: لا علم لنا إلا ما علَّمتنا...فقال لآدم: أنبئهم بأسماء هؤلاء الذين عرضناهم عليهم فأنبأ آدم الملائكة بأسماء تلك التجليات، وكانت على عدد ما في نشأة آدم من الحقائق الإلهية..."[4] ولعل هذا العلمَ هو واحد مما اعتمده الجزري - كابن عربي- في تأويل خلق الإنسان في أحسن تقويم، وذلك لِعِلْمِ الإنسان بما يعلمُه الله وحدَه دون سائرِ المخلوقاتِ، ومن ضمنها (الملائكةُ)!

وفي قراءة أُخرى لقوله في البيت السابق (بالنّـبْر على كلمة dî التي يكون معناها/رأى/) وبـ (we) بدلاً من (di):

Nezer dî ('ellemel esma) we batin 'eynê miratî

[رأى النَّظَرُ -أيْ نَظَرُ الحقِّ رأى- (علَّمَ الأسماء) -أيْ آدمَ- إذ الباطن - أي باطن آدمَ- عينُ المرآة؛ حيث تعربُ الواو حالية بمعنى (إذْ)] 

قد يكون المرادُ أنّ الإنسان جامعٌ الحقائقَ الإلهيةَ والكَوْنِيَّةَ، فكان [الإنسانُ] للحقِّ [أي لله] بمنـزلة إنسانِ العَيْنِ من العينِ، وهوما يكون به النَّظَرُ، فسُمِّيَ إنساناً، وبه [أي بالإنسان] نظر الحقُّ إلى خَلْقِه نظَراً حُبِّـيَّاً، استدعى الرحمةَ التي هي من مظاهر الحبِّ، ولهذا يمكن تأويل قول الجزري السابق: (رأى نظرُ الحقِّ آدمَ لأنه عين المرآة التي تعكس صورة الذات الإلهية) و(آدم) هو الذي كَنّى عنه بـ(عَلّمَ الأسماء) حيث أنشأ الحقُّ جسدَ آدمَ وصورتَه الظاهرةَ من حقائقِ العالَمِ وصُوَرِهِ، كما أنشأ روحَ آدمَ على صورة الحقِّ الباطنةِ، فوجده مرآة في باطنها الروحي، لأن المرادَ بآدمَ الروحُ الكلّيُّ المحمَّدي، وليس المرادُ آدمَ المخلوقَ من طين والذي خُلِق من النفْس الواحدةِ التي هي العقل الأول الذي هو الخليفة الذي هو آدمُ الكلي[5].    

وأما وصفُ الإنسان بأنّ له ظاهراً وباطناً، فيستدعي تعرُّفَ صفتينِ متعارضتين تجتمعان فيه - على حدِّ تعبـير (نصر حامد أبو زيد)- في معرِض تحليلِهِ نظريةَ (ابن عربي) في (فلسفة التأويل) حيث "ترتبط صفة الباطن بأولية الإنسان الروحية، وترتبط صفة الظاهر بآخريته الكونية، فهو باطن من حيث إن الأسماء الإلهية توجَّهت على إيجاده، فهي باطنة فيه، وهو ظاهر من حيث ظهور حقائق الكون في صورته العنصرية الظاهرة.."[6] فباطن الصورة الإنسانية الجميلة هو عينُ المرآةِ التي يتجلى فيها الجمالُ الإلهيُّ. وجمالُ الإنسان في (أحسن تقويم) هو مَجلى الجمال الإلهي، ومظهرٌ له، وأما في باطنه فهو مرآة تعكِس ذلك الجمالَ الإلهي الذي تعجز الأوصاف عن الإحاطة به، ويقصر البـيان عن تفسيره، فالإنسان "هو الأول من حيث الصورة الإلهية، والآخِرُ من حيث الصورة الكونية، والظاهرُ بالصورتينِ، والباطن عن الصورة الكونية بما عنده من الصورة الإلهية"[7] فما كان ثمة وسيلة تقدِّمُ أقربَ تفسير لذلك الجمال سوى (أحسن التقويم) الذي استعان به الجزري لتقريب صورة ذلك الجمال المطْلَق للعيان أو الأذهان بعد أن حارت الأذهانُ في أمره ونَعْتِهِ، قال:

Husna te nizanim bi çi teşbîhi bikim!?

(Fî ehseni teqwîm) lew hatiye tefsîrê 

[754- العقد الجوهري] 

[لست أعرف بماذا أشبّه حسنك؟! فقد جاء تفسيره في (أحسن تقويم)]

رأى (ابن عربي) أنَّ "الوجود دائرة، فكان ابتداء الدائرة وجود العقل الأول الذي ورد في الخبر أنه أول ما خلق الله العقل، فهو أول الأجناس، وانتهى الخلق إلى الجنس الإنساني، فكملت الدائرة واتصل الإنسان بالعقل كما يتصل آخر الدائرة بأولها، فكانت دائرة وما بين طرفي الدائرة جميع ما خلق الله من أجناس العالم بين العقل الأول الذي هو القلم أيضاً، وبين الإنسان الذي هو الموجود الآخِر"[8] أما الجزريّ فقد صور الوجودَ بمثال الحروف التي خرجت من الألف حيث إن "الألفَ مبتدأُ الحروفِ..وانفتحت فيه أشكال الحروف كلِّها، لأن أصلَ الأشكالِ الخطُّ، كما أنَّ أصلَ الخطِّ النقطةُ، والخطُّ هو الألف، فالحروف منه تـتركَّبُ، وإليه تنحلُّ، فهو أصلها.."[9] وقد أوضح الجزري تصوُّرَه المطابقَ لتصوُّر (ابن عربي)، في نظرية الأصل والفصل وفي نظرية وحدة الوجود التي نادى بها (ابن عربي) وفي نظرية الوحدة المطلقة وتجليها في القلب، حيث يقوم تصوف وحدة الوجود على القول بأن ثمة وجوداً واحداً هو وجود الله، أما التكثُّر المشاهد في العالم فهو وهْمٌ على التحقيق تحكم به العقول القاصرة. على أن من أصحاب وحدة الوجود، كابن عربي، مَنْ يفسح المجال للقول بوجود الممكنات أو المخلوقات على نحو ما، ومنهم مَنْ يطلق القول بالوحدة، ويمعن في ذلك إلى الحد الذي يجعله لا يثبت إلا وجود الله فقط، وهؤلاء هم أصحاب الوحدة المطْلَقة وعلى رأسهم (ابن سبعين)[10] وتبعه الجزري في ذلك.

انبثقت الحروف عن الألِفِ، حيث رأى الجزري أن الوجودَ كتابةٌ، وأن مظاهر هذا الوجود هي رموز وعلامات كتابية لها مصدر أول يبدأ بالنقطة وينتهي إليها، وهذه النقطة غير مسبوقة بسواها، إنما هي علّة ذاتها وعلة غيرها، وكان الانفصال عن المصدر/النقطة هو العامل الأول للرغبة في العودة إلى ذلك الأصل، سعياً إلى ملء الفراغ بين الأصل والفصل، على النحو الذي عبَّر عنه الجزريُّ بقوله:

Herfi ji yek bûne fesl ger bibirê wan bi esl

Herfi dibit yek xetek xet ku nema nuqte ma

Wehdetê mutleq Mela nûre di qelban cela

Zori di vê mes-elê ehlê dilan şubhe ma 

[25- العقد الجوهري]

[إنْ رَدَدْتها إلى الأصل، فإن الحروف انفصلت من بعضها. فالحرف يُصبح خطاً واحداً، فإن فَنيَ الخطُّ تبقى النقطةُ. فالوحدة المطلَقَة (يا ملا) نورٌ تجلى في القلب، وفي هذه المسألة ظلَّ كثير من أهل القلوب في شُبْهة من الأمر] ويحتمل أن يكون المراد من (ji yek): (من واحدٍ؛ أي: الألِف).

فهو يُكَنِّي بالحروف عن المخلوقات التي جاءت بالفَيْضِ من الذات الإلهية (الواحدِ/الألِفِ) إلى الوجود المحدَث (المتعدِّدِ/الحروفِ)، وانبثقت تلك المخلوقات من تلك الذات القديمة. وهي التي كنى عنها بالواح أو بحرف الألِف. فبالواحد دخلت المخلوقات عالَمَ الحدوث والتعدد والكثرة والكَوْنِ بعدَ أنْ لم تكنْ، لأنه افترض أن عالم الحدوث ظهر على شكل خط يمتدُّ من اللابداية إلى اللانهاية، ثم افترض أن الخطَّ [المحدَثات] إنْ تعرّضَ [الخطُّ] للفناء [أي العودة إلى الأصل] فإن النقطة [أي: الوحدة المطْلَقة] ستبقى أبداً، وأنك لو رَدَدْت الحروف المفصولة إلى أصلها، أو إذا محوتها لَـما بقي سوى النقطةِ التي تمثل الوحدة المطلقة التي لا ريب في حقيقتها عند الجزري، ولو أنك افترضت فَناء الموجودات، فلن يـبقى سوى الواحد الذي انبثقت منه، ويتوقف وجودها عليه، كتوقف الأعداد على الواحد، أو توقف الخط على النقطة. وهي الفكرة التي عبّر عنها (إخوان الصفاء) في رسالة (في العدد)، وقد جاء فيها: "والواحد الذي قبل الاثنين هو أصل العدد و[مبدؤه] ومنه ينشأ العدد كلُّه، صحيحه وكسورُه، وإليه ينحلُّ راجعاً..وكما أن الواحد أصل العدد و[منشؤه] وأوله وآخره، كذلك الله..هو علّة الأشياء، وخالقها وأولها وآخرها، وكما أن الواحد لا جزء له ولا مثل له في العدد، فكذلك الله..لا مثل له في خلقه، ولا شِبْهَ، وكما أن الواحد محيطٌ بالعدد كلّه ويَعُدُّه، كذلك الله..عالمٌ بالأشياء وماهيّاتها"[11] وهي ما عبَّر عنها الجزري ليؤكد أن العالم في صورة الكثرة ليس إلا امتداداً لتلك البداية التي انطلقت من النقطة، حيث إن سواد خطِّ الكتابة في امتداده هو في الأصل نقطة واحدة، وكذا العلم يبدأ بالنقطة، وكذا الحروف تبدأ بالألِف، ويمكنها أن تدلَّ على معنى واحد هو أن أصل أي موجود هو تلك البداية التي تمثلها النقطة الأولى في الوجود الأزلي الأبدي، على قاعدة أن ما ليس له نهاية ليس له بداية، وما ليس له أول ليس له آخِر. قال:

Nuqte-ê 'ilm û sewadê herf û neqşê 'alemê

Ser didin me'nayekî  eslê sewadê nuqte bû

Her yeke û dê yek bimînit ewwel û axir yeke

La cerem nabê do bê, ê dê bimînit, her hebû 

 [621- العقد الجوهري]

[ نقطة العِلْمِ، وسواد خط كتابة الحروف، ونقشُ العالم كلُّها تعطي معنى واحداً هو أن أصل أي خط هو النقطة. إنه واحدٌ وسيبقى واحداً، فالأول والآخِر كلاهما واحدٌ، ولا يجوز أن يكون [هذا الواحدُ] اثنينِ، فالذي يبقى أبداً لا بدَّ أنه كان أزلاً] ويحتمل -بفصل (me'na) عن (yekî)-  أن يكون المقصد على النحو التالي:

[ نقطة العِلْمِ، وسواد خط كتابة الحروف، ونقشُ العالم كلُّها تعطي معنى الواحد (الله) على مثال أن أصل سواد خط الكتابة هو النقطة]

رأى الجزري -كغيره من الصوفية- أنّ الوجود له قوى في تفاصيله، بها كانت حقائقُ الموجوداتِ وصورُها وموادُّها. والعناصر إنما كانت بما فيها من القوى، وكذلك مادتُها لها في نفسها قوة، بها كان وجودها، ثم إن المركباتِ فيها تلك القوى متضمنةٌ في القوة التي كان بها التركيب، كالقوة المعدِنية وزيادةُ قوتها في نفسها، وكذا القوة الإنسانية مع الحيوانية..والقوة الجامعة للكل من غير تفصيل هي القوة الإلهية، فهي التي انبثَّتْ في جميع الموجودات كلية وجزئية، وجمعتها وأحاطت بها من كل وجه لا من جهة الظهور ولا من جهة الخفاء ولا من جهة الصور ولا من جهة المادة. فالكل واحد وهو نفس الذات الإلهية، وهي في الحقيقة واحدة بسيطة..[12] ورأى من جهة ثانية تلك العلاقة الترابطية بين الأزل والأبد، حيث يتسم الأزليُّ بالأبدية، كما أن الأبدي يتسم بالأزلية، وهي التي أخذ الجزري يطلق عليها اسم (السَّرْمَدِ) الذي يجمع الأزل والأبد في دالٍّ واحد ترجمته هذه العلامة اللغوية التي تشمل مَعْنَيَي الأزل والأبد. كما أن من صفته الأزلية/الأبدية لا بدَّ أن يكون أحداً لا ثاني له، غير أنه لا يرى فرقاً بين الأحدية والواحدية التي كانت موضع خلاف بين بعض الصوفية، بحسب ما يدل عليه قوله التالي:

Sirrê wehdet Ji ezel girtiye hetta bi ebed

Wahid û ferde bi zatê xwe wî nînin çu 'eded 

Di qidem da ezel û 'eynê ebed herdû yekin 

Sermediyyet weh dixwazit ne ezel bit ne ebed 

Ferqe wahid ji ehed lê di meqamê semedî 

Bi heqîqet ku yekin herdû çi wahid çi ehed 

Yeke derya tû bizan qenci çi mewc û çi hebab 

Di esil da ku hemî ave çi av û çi cemed! 

[110- دوسكي] [216-217-العقد الجوهري]

 [سِرُّ الوحدة عمَّ الوجودَ كلَّه من الأزل حتى الأبد، فهو (الله) واحد فردٌ بذاته ليس له عدد. الأزل وعين الأبد هما متحدان في القِدَمِ، حيث تقتضي السرمدية ألا يكون أزلٌ أو أبدٌ. بين الواحد والأحد فرق، لكنْ في مقام الصمدية، في الحقيقة هما واحدٌ سواءٌ أكان واحداً أم أحداً. فاعلم جيداً أن البحر واحدٌ سواءٌ أكان موجاً أم حُباباً، فكلُّه في الأصل ماءٌ، سواءٌ أكان سائلاً أم كان متجمداً صلباً]

ليس التعلق بالجمال الإنساني سوى وسيلة يتم تجاوزها نِشداناً للمقامات السامية، حيث اتخذ الجزري هذا الجمال للتشبـيه، أو اتخذه للانتقال منه إلى جمالٍ أسمى هو الجمال الإلهي، وجمال الإنسان (في أحسن تقويم) هو آيةٌ لجمال الله ومَجْلى لعلاماته التي تؤثر في قلب المحب الذي يقرأ اسمَ (الله) في آية الجمال تلك، قال:

Elif û du lam û hê dîn me di ayeta cemalê 

Ji ceger me kir tesellî we ji sîne dest veşandin

[452- العقد الجوهري]

[ألفاً ولامَيْنِ وهاء رَأَيْنا في آية الجمال، فقطعنا الأمل من الكبدِ ونفضنا الأيدي من الصدر]

إن مشاهدة علامات الجمال تُشغِل المحبَّ عن نفْسه، وتجعله في حالة غياب عن ذاته وجوارحه، تمهيداً لحالة الفَناء التي يقطع فيها الأمل من كل ما سوى الجمال المتجلي له، وهو - وإنْ كان جمالاً إنسانياً- يذكِّرُه باسم خالق هذا الجمال تذكيراً تدلُّ عليه الألف واللامانِ والهاء (الله) التي بدت في وجه الحبيب الإنساني الذي يتجاوزه المحبُّ ليرتقي مقامات أعلى، حيث تتمثل في وجهه حكمة الله، وحيث جمال الإنسان (من أجلى البراهين والآيات) على تلك الحكمة، ومن (براعات العبارات لعنوان تجلي جمال الله)، فكان لا بدَّ من التوسُّل بهذا الحبـيب الإنساني لبلوغ الغايات

النهائية والمقاصد السامية، قال:

Di pa bosa semen sayê mi nêrî bejn û balayê 

(لَعَلّي أبلغُ الأسبابَ أسبابَ السَّمَوَاتي)

Ji vî teqwîmê insanî nezer da sirrê subhanî 

(فهذا الوجْهُ مِنْ أجْلى براهينٍ وآياتي)

Nişanên turre tuxrayan di wesfê zuhre sîmayan 

(لعنْوانِ التّجَلّي من براعات العباراتي)

[699- 700- العقد الجوهري]

[بعد تقبيل المحبوبة، تأملت جمال قامتها الميّادة لعلّي أبلُغ الأسباب التي توصلني إلى الجمال الأسمى. فمِنْ هذا التقويم الإنساني الجميل ظهرَ سرُّ سبحانه عياناً، فهذا الوجه الجميل من أشدّ البراهين والعلامات على جمال خالقها. إن علامات الجمال الإنساني التي تبدو منيرة على وجوه الحسناوات، هي عبارات بليغة ورائعة تدلّ على مسالك تجلّي الجمال الإلهي] 

في المعنى السابق ( di pa) بمعنى (بعد) أو (عَقِبَ). أما إذا كانت (pa) تعني (القدمين) فإن المعنى يكون على النحو التالي: (في حال تقبيل قدمَي الحسناء...). وأما إذا كانت (pabosa) كلمة مركبةً فإنها تدل على طقس تقبيل الأقدام عند المحبين، دلالة على الإذلال والخشوع للمحبوب، فإن المعنى يكون على النحو التالي: (في طقس تقبيل قدمَي الحسناء الشبيهة بزهر الياسمين في صفائها وبياضها...إلخ)

وقد سلك الجزري مَسْلَكَ (ابن عربي) في قول الأخير بأن الله: "خلق آدم على صورته، والإنسان مجموع العالم، ولم يكن علمُه [علم الله] بالعالم.. إلا علمَه بنفسه، إذ لم يكن في الوجود إلا هو، فلا بدَّ أن يكون على صورته، فلما أظهره في عينه كان مَجْلاه. فما رأى فيه إلا جمالَـه، فأحبَّ الجمالَ، فالعالَم جمالُ الله، فهو الجميل المحبُّ للجَمال. فمن أحبَّ العالم بهذا النظرِ فقد أحـبَّه بحبِّ الله، وما أحبَّ إلا جمالَ الله، فإن جمالَ الصـنْعة لا يضاف إليها، وإنما يضاف إلى صانعه [صانع الجمال]، فجمال العالم جمال الله، وصورة جماله دقيق [دقيقة]؛ أعني جمالَ الأشياء"[13].

الإنسان يحمل في حسنه دلائلَ وأسرارَ إبداعِ خالقِه، فإذا كان ثَـمَّة آدميةٌ يعكِسها حُسْنه فإنَّ تلك الآدميةَ تُظهرُ الحكمة الإلهية في خلق الإنسان في صورته الجميلة روحاً وجسماً، ظاهراً وباطناً، حيث يمكن أن تحوم الأوصاف والنعوت حول الجمال الإنساني عسى أنْ تقرِّب نعوتَ الجمال الإلهي إلى العقول العاجزة عن التعرُّف إليه بطرق القياس والبرهان والاستدلال والمنطق، وفي رسالة (في قول الحكماء: إن الإنسان عالَم صغير) كان (إخوان الصفاء) قد ذكروا أنه لما كان الإنسان هو جملة مجموعة من جسد جسماني ونفس روحانية، وجدوا في هيئة بِنية جسده مثالات لجميع الموجودات التي في العالم الجسماني من عجائب تركيب أفلاكه، وأقسام أبراجه، وحركات كواكبه، وتركيب أركانه وأمهاته، واختلاف جواهر معادنه...ووجدوا أيضاً لأصناف الخلائق الروحانيـين من الملائكة والجن والإنس والشياطين، ونفوس سائر الحيوانات، وتصرُّف أحوالها في العالم، تشبيهاً من النفْس الإنسانية وسَرَيان قواها في بِنية الجسد. فلما تبيَّنت لهم هذه الأمور عن صور الإنسان، سمَّوْه من أجل ذلك عالَماً صغيراً[14]. قال الجزري:

Ey perî hûri siriştê her çend

Bi beşer ademî û insanî 

Surri subhan te ji husnê dinumêt

(Ehsenellah)[u] ji surra subhanî 

Çi hedê 'eqle qiyasê te kirit

Eve burhan ku tu bê burhanî 

[741-742- العقد الجوهري]

[يا حسناءَ الجنِّ! يا مَنْ طبيعتُك من الحُورِ العِينِ، أنت في هيئتكِ وخِلْقتك إنسانٌ، لكنكِ تُظهرين الحكمة الإلهية بحسنك، فما أحسن تلك الجاذبيةَ التي أودعها الله في خِلْقتك! أيُّ جسارة أو بأس للعقل حتى يستطيع أن يجدَ قياساً لك، حاشاك؟! فالبرهان هو أنك بلا برهان]

فآدم -المخلوقُ على صورةِ اللهِ، وخليفةُ اللهِ وروحُ العالم- هو مَحَلُّ ظهور الأسماء الإلهية، وهو الجامع لحقائق العالم كلِّه[15]، حيث إنه [آدم] المِرْآةُ التي تعكِسُ تجلياتِ تلك الأسماءِ، والله "ركَّبَ في فطرته [فطرة آدم] من كلِّ اسمٍ من أسمائه لطيفةً، وهيّأه بتلك اللطائف للتحقق بكل الأسماء الجلالية والجمالية"[16]، فهو كالمرآة للحق [الله]، فالحق [الله] يتجلى للمحبِّ في الْـخَلق، وهو التجلي في الصُّوَرِ. فـ(نقّاشُ الأزل) الذي كنّى به عن (الله) دوَّن اسم الجمال بحروف جسّدها في الإنسان، فكانت العيون شبـيهة بالصاد (صـ)، وكان الفم شبـيهاً بالهاء (ه)، والزلف شبيهة باللام (ل)، فرسم صورةً لها جاذبـيةٌ ولُطفٌ يدلان على إبداع ذلك النقش وخالقِه، وما الحروف إلا كناياتٌ عن الموجودات التي اجتمعت حقائقها في (أحسن التقويم)، قال:

Neqqaşê ezel ismê cemalê ku nivîsî

Herfên te mucessem ji surê taze reşandin

Reyhanî û dîwanî û hem šulš  û muselsel

Yek yek weh hezar rengi ji husnê neqqişandin 

Ev ayetê nûrê ji Mela ra ku nivîsî

Katib ji surê nuqte bi zêrabê feşandin

[204- دوسكي] [479- 480-العقد الجوهري]

[عندما دوّن نقّاشُ الأزل اسم الجمال جسّمه في محاسنك البديعة حروفاً منثورة بإتقان وإبداع، بجميع أنواع الخطوط من ريحاني وديواني أو ثلث أو مسلسل، واحداً واحداً هكذا بألْفِ نوع من الحسن زيّنها. إن هذا الرسم البديع هو آية نورٍ للملا خَطَّها الكاتبُ ورشَّ نقاط الشامات بماء الذهب]

نقطة البدء بخطِّ اسم الجمال هي أول الخَلْقِ، هي بداية الكونِ، بدايةُ تجلي الْحُسْنِ، وانعكاسِ صورةِ الجمال الإلهي في مرآة الجمال الإنساني. لكن هذا الإعجاب تجاوز جمال الإنسان إلى جمال الأكوان، لِـما فيها من مظاهر التجلي. وحنينُ المتعلِّق بالجمال أبداً إنما هو حنينٌ لموطنِ التجلي، من حيث التجلي لا من حيث الصُّوَر، فغرامُه وتهيامه وتعلقه إنما هو بالتجلي، ما هو غرامه لمن يتجلى فيه إلا بحكم التبعية، كالتَّوَلُّعِ بمنازل الأحبة من حيث هي منازل لهم خاصة، لا من حيث هي منازل[17]. فلا يخلو أي أثر في الكون من صفة أو صورة من صور الجمال الإلهي، وهو ما عبّر عنه (ابن عربي) بقوله:

فما ترى في وُجودِ الكَوْنِ مِنْ أثَرٍ         إلاّ وفـيه إذا حقّـقْـتَ صُورَتُهُ

فكلُّ مَنْـزِلةٍ في الكَوْنِ ظاهـرةٌ             وإنَّما هيَ في التحقيقِ سُورَتُـهُ[18] 

جمالُ الله، في رأي الجزري ليس "إلا ما يشهده من جمال العالم فإنه أوجده على صورته، فمن أحبَّ العالمَ لجماله فإنما أحبَّ الله، وليس للحقِّ مَـنـْزَه ولا مَـجْلى إلا العالَـمُ..فأوجدَ الله العالَمَ في غاية الجمال والكمال خَلقاً وإبداعاً...أحبَّ نفسه، ثم أحبَّ أنْ يرى نفسَه في غيره، فخلق العالم على صورة جماله.."[19]. فآدم هو الحقيقة الجامعة لنعوت الحضرة الإلهية التي هي الذات والصفات والأفعال، وقد خلقه الحقُّ على صورته. وليست صورتُه [صورةُ الحقِّ] سوى الحضرةِ الإلهية، فأوجد في هذا المختصر الشريف الذي هو الإنسانُ الكاملُ جميعَ الأسماء الإلهية، وجميعَ حقائق ما خرج هو عن هذا المختصر في العالم الكبير المنفصل..فلا يوجد في الإنسان الكامل الأشخاصُ الجزئية الموجودة في العالم الكبير بل توجد حقائق تلك الأشخاص فيه..فالمراد بآدم في قوله: (خلق آدم على صورته) هو آدم الحقيقي الذي يسمى الإنسان الكامل والروح المحمديّ..لا آدم الصوري العنصري (المنسوب إلى العناصر المادية)..[20] 

وجمالُ الإنسان هو الأجمل في نظر الإنسان، ولهذا فإن الصوفية رأَوْا أكثر ما رأوا أن الجمال الإلهيَّ يتجلى على مثال البشر، وأنه يتجلى للمرأة في صورة الرجل، وللرجل في صورة المرأة، وقد يتجاوز هذا التقسيم إلى التجلي في صور أصنام الجمال أو الحورِ العِينِ، أو في صور المُرد والغِلمان، ليـبقى المثالُ الإنسانيُّ أقربَ مثالٍ لمحبِّ الجمال الإلهي، وهو ما عـبَّر عنه الجزريُّ بِقَوْلِه:

Xerqi bûm ez di xema 'işqê di weqtê seherî bû 

Ku teceelayê cemalê li mišala beşerî bû 

 [779- العقد الجوهري]

[غرقت في هموم العشق منذ السَّحَر، وقد كان تجلّي الجَمال على مثال البشر]

فالجمال الإلهي يتجلى في الموجودات، وجمال الخلق يمكن أن يُتَّخَذَ سبيلاً لمعرفة جمال الحق، فالحب، في مذهب الجزري، هو الطريق لمعرفة الحقيقة[21] فقد أحبَّ الله نفْسَه لأنه "جميل يحب الجمال"، ثم أحبَّ أن يرى نفْسه فخلق العالم على صورة جماله، ليكون العالم مرآةً لجماله، وشاهداً عليه، قال الجزري:

'alemek şehdeyiya husn û cemala te didit

Tû Zuleyxayî zemanî we çi hacet medehê!? 

[713- العقد الجوهري] 

[هذا عالمٌ يشهد على حُسنك وجمالك، فأنت (زليخا) زمانك، فما الحاجة إلى المديح والثـناء؟!] 

الموجودات بجمالها هي آياتٌ تدلُّ على الجمال الإلهي، والجمالُ يستدعي الحبَّ بأنواره التي تملأ الكون وتنعكس في كأس الحبِّ، بوصف الحبِّ مرآة للجمال، ومعياراً له، فحُسْنُ ملكاتِ الجمال وحُسْنُ الله هو حُسْنُ الأشباه والأمثال، فالجميل إلى شَكْله [مِثْلِه] يقودُ طالبَ الجمالِ/المريدَ. والحُسْنُ الحقيقيُّ يتجلى كذلك في مثالِ الحُسْنِ المجازيّ الذي هو قَبَسٌ من ذلك الحسن الكامل، وهو نفسه المعنى الذي عـبَّر عنه (ابن عربي) في تأكيده على أن "الحق يتجلى في حضرة المثال في الصور في عالم التمثيل، وهو تجلٍّ شهاديٌّ متـنوِّعٌ في الصور..في هذه الحضرة تتجسد المعاني المجرّدة والمعارف والأرواح في الصور المثالية"[22] وفي نحو ذلك قال الجزري:

Husni zatê but û latan ji cemala semede 

Ji mišala senemê weh ku tecellaye semed 

Xeyrî derya niye sehra bi heqîqet emma 

Ji ruwê keyfe ku ev av e buwê şubhê zebed 

(kulle yewmin huwe fî şanên) nebî xafili jê 

Her peyapey ji şu-ûnan dikirit feyd û meded 

[218-219 - العقد الجوهري]

  [حسن أصنام الجَمال من جمال الصمد، فعلى مثال أصنام كهذه يتجلى الصمد. في الحقيقة لا يوجَدُ سوى البحر، وليس ثمة صحراء، إنما من جهة الكيفية صار الماء شبـيهاً بالزبَد فصار أرضاً يابسةً. الصمد في كل يوم يكون في حال مختلفة، فحذارِ أن تغفل عن هذه. ومِنْ أحواله تلك، ودون انقطاع يفيض على مخلوقاته ويمدها بعلامات منه]

أما قوله بوجودِ البحرِ وحْدَه، و(انعدام الصحراء في الحقيقة)، وبتحوُّل الماء إلى زَبدٍ تكوَّنت منه الأرض لتصير صحراء يابسة فيما بعد، ففيه إيحاء إلى أن الجمال ليس إلا واحداً في (حقيقته)، وأما تغير تصنيفاته فليس إلا من جهة المظهر والهيئة والكيف الذي لا يمكن أن ينفي أن جمال المخلوقات هو في أصله وجوهره جمال الخالق، بل ليس ثمةَ غيرُ جمالٍ واحد تعدَّدَتْ تصنيفاته وتجلِّياته، مثَل ذلك كمثَل الأرض التي تعود في أصلها إلى الزَّبَدِ الذي هو في حقيقته ماءُ بحرِ الوجودِ المطلقِ الذي لا تحدُّه حدود، حيث انتقلت نعوت الجمال إلى الكَوْنِ لكنه [أي الجمال] بقي في عالم الحقيقة - ينسب إلى أصله الإلهي، وهو ما ينبّه الجزريُّ إليه بدلالة قوله إلى أن الله (كلَّ يوم هو في شأن) فعلى الإنسان ألا يغفل عن ذلك، وعليه ألا ينخدع بتعدد تجليات الجمال [تعدد الواحد] وصوره التي تعود في النهاية والبداية إلى أصلها [الإلهي]، فلما استحال [تعذّرَ] نعتُ الذاتِ الإلهيةِ بنعوتٍ لا تزالُ قائمةً فيها [نعوتٍ مُسْتَمِرَّةٍ كائنةٍ في الذات]، كان لا بدَّ من مَجْلى تظهر فيها تلك النعوتُ ليكونَ النعتُ ممكناً [متيسّراً]، حيث إن الْـمَجْلى يعكِس النعوتَ في مِرْآته، وهو ما عبَّرَ عنه ابن عربي بقوله:

الذّاتُ تشهدُ في المَجْلى وليس لنا        حُكْمٌ عليها بنعتٍ لم يَزَلْ فيهِ

إلاَ تحوُّلَــها إلاّ تبدُّلَـــها                     في كلِّ مَجْلى وهذا فيهِ ما فيهِ[23]

هذا الأصل هو الجمال الإلهي، الأزلي، الأبدي، الممتد من سَـرمَدِ اللابداية واللانهاية، وليست الأكوان إلا فرعاً يجب على المحبِّ ألا يمكث عند الفرع طويلاً، لأن القاعدة الصوفية تقتضي الانتقال من الفصل إلى الأصل؛ أي الانتقال إمّا من حال التميُّز عن المحبوب إلى حال الاتحادِ [صدور الكثرة من الواحد ورجوعها إليه] أو من التعلق بالفرع إلى التعلق بما انبـنى عليه ذلك الفرع، وقد طلب الجزري تطبيق هذه القاعدة احترازاً من ركوب الجهل تحت أعباء الحدوث الذي قد يَحُوْلُ بين الإنسان وبين معرفة القِدَمِ الذي انبنى عليه ذلك الحدوث، وهي القاعدة الفلسفية التي أقام عليها نَـظرتَه/نظريته الصوفيةَ في الحبّ والجمال والمعرفة والألوهة وغيرها..حيث تختفي أنوار الحدوث في حضرة أنوار القِدَم، قال:

Lem'eyek ger ji kenarê qidemê pertewê dit 

Dê ji ber wê se'etê mehwibin enwari hudûš 

............

Tû hudûšê weh mebîn qenci nezer dê carekê 

Li esasê qîdemê daniye dîwarê hudûš  

...........

Tû ji feslê here eslê ku di vê dêrê xerab 

Da ne bî merkebê cehlê tû di bin barê hudûš 

Da nigarê xwe bi sed rengê bibînî îro 

Were carek bike seyrê  tû di etwarê hudûš   

 [161- 167-168- العقد الجوهري]

[إنْ أنارتْ لمعةٌ من جهة القِدَمِ، فإن أنوار الحدوث ستمَّحي وتزول فوراً، فلا ترَ الحدوث هكذا بظاهره بل دقِّق النظر فيه تماماً، فعلى أساس القِدَمِ وُضِعَ جدار الحدوث. انتقلْ من الفرع إلى الأصل في هذا المنـزل الخرابِ [الدنيا]، حتى لا تكون مَرْكَبَ الجَهْل تحت حملِ الحدوث. ولكي ترى اليومَ صورتَك بمئة لونٍ، تعالَ مرةً، وسِرْ (أو تمعَّنْ:bike seyrê) (أي: seyrbike) أو (sêrke) في أطوار الحدوثِ]

الجمال الذي قصده الجزري هو جمال الأرواح وليس الأشكال والمظاهر، لأن الأرواح لا نهاية لها، فهي أبدية كما هي أزلية، وهذه حقيقة لا شكَّ فيها عند الجزري، قال:

Husn û cemalê canan nadîritin tu payan

Her çi nebit bidayet eslen nehin nihayet

[137- العقد الجوهري]

[حسن وجمال الأرواح ليس له أيُّ نهاية، فكل ما ليس له بداية، أصلاً، ليس له نهاية]

الجمال الذي تعلق به الجزري هو جمال روحاني، ومظاهر الزينة المحسوسة في العالم لا قيمة لها ما لم تقترن بجمال روحاني وجاذبـية اشـترطهما الجزري للحب. فالجمال ليس في المظهر، إنما هو في تلك الروحانية والجاذبـية التي اشـترطهما الجزري بقوله:

Zêr û zîwer dikirin celbê qulûban haşa[24]?! 

Husn û sur zatê ne bit qametê meyyadi çi kit?! 

[133- العقد الجوهري] 

[حاشا القلوبَ أنْ يجلبها الذهب والحليَُّ. إنْ لم يكن ثمة حسْنٌ وجاذبـية أصلاً، فما يمكنها أن تفعل القامة الميّادة؟!]

فلولا الحسنُ والجاذبـية - وهما أمران معنويان روحيّانِ - لا قيمة لأي مظهر شكلي قدْ يُدَّعى أنه جميل، حيث تعلَّقَ الجزريُّ بالجوهر الجمالي القائمِ بنفسه، الثابت، غيرِ المتوقِّفِ على الأشكالِ التي قد يُدْرِكُها البِلى، من مِثْلِ التعلُّقِ بالقامة الميّادة، أو بِبَهْرَجَة الزينةِ القابلة للفَناء والتبدُّل والتحوُّل، قال:

Husn û sur zatê ne bit cezbe li dil dit mehbûb 

Me ji zulf û xet û xal û qedê meyyali çi hez?! 

[341- العقد الجوهري]

[إنْ لم يكنْ ثمّةَ حسنٌ وجاذبية، وجذبةٌ يصيب بها المحبوبُ القلبَ، فأيُّ حظّ لنا من الزلف، والخطوط، والشامةِ، والقامة الميّادة؟!]

ذهبَ الجزري إلى أنَّ جمال الله يتجلى في جمال الخلق، وأنَّ كل مظهر من مظاهر الجمال الطبـيعي هو نعت أو علامة توحي بجمال الله، وهو مذهبٌ سبقه إليه (ابن الفارض) بقوله:

وصَرِّحْ بإطلاقِ الجَمال ولا تَقُلْ      بتقيـيده مَيْلاً لِزُخْرُفِ زيـنَةِ

فكلُّ مَليحٍ حُسـنُه من جَـمالها     مُـعارٌ له بَلْ حُسْنُ كلِّ مَليحَةِ

بها قَيْسُ لُبْنى هامَ بل كلُّ عاشـقٍ     كمجنونِ ليلى أو كُثَـيِّرِ عَزَّةِ

فكلّ صَبا منهم إلى وصفِ لَبْسِها بصورة حُسنٍ لاحَ في حُسنِ صورةِ

وما ذاك إلا أنْ بَـدَتْ بمظاهرٍ     على صِبَغِ التلوينِ في كلِّ بَـرْزَةِ

ففي النشأة الأولى تراءتْ لآدمٍ     بِمَظهرِ حَـوّا قَبْلَ حُكْمِ الأمومَةِ

وتظهر للعشّاق في كلِّ مَظْـهَرٍ   من اللَّبْسِ في أشكالِ حُسْنٍ بديعةِ

ففي مَرّةٍ لُبْنى وأُخرى بُثَيْنـَةَ           وآونـةً تُدْعـى بعَـزَّةَ عَزَّتِ

كذاكَ بحُكْمِ الاتحادِ بحُسْنِـها     كما لي بَدَتْ في غيرِها وتزيَّـتِ[25] 

وكذا جعل الجزري مقصدَه النهائيَّ ذلك الجمالَ الروحانيَّ، ولم يُطل المكوث أمام الجمال الإنساني الذي توسَّلَه، كما لم يكن له غاية من حسن المحبوبات اللاتي يذكرُهنَّ سوى ما أبدعه الله من حُسْنٍ يدل على جمال المبدِعِ؛ فالجمال الإنساني يذكِّر بجمال خالقِه، وهذا ما صنعه الشاعر (نور الدين عبد الرحمن الجامي) (1414م- 1492م) في قصة (يوسف) و(زليخا): "حكاية الفتاة المصرية الجميلة الثرية المسماة بازغة، وقد أحبت يوسف قبل أن تراه لِما سمعته من وصفه، فلما رأته وقعت مغشياً عليها لما بهرها من جماله، ثم أفاقت فأخذت تسأله: ((يا مَن بكَ يستقيم أمرُ كلِّ ذي حُسْنٍ، مَنْ ذا الذي زيَّنَكَ بمفاتن هذا الجمال؟ من ذا الذي جعل شمسَ جبينكَ تتألق؟..وأيُّ مصور أبدع قلمَه في نقشكَ؟...فأجابها يوسف: أنا صنعة صانعي، وقطرة من بحره كافية لخلقي، ..وما العالم إلا برعمة من حديقة جمالِه..وجماله منـزّه عن تهمة العَـيْبِ، مستـترٌ في حجاب الغَيْبِ، وقد جعل من ذرّات العالم مرايا انعكس وجهُه في كلّ منها. فكل ما يـبدو جميلاً في عيون المفكِّرِ النافذِ البصيرةِ ليس إلا انعكاساً لوجهه، فحين ترين هذا الانعكاسَ عجِّلي بالاتجاه صوبَ الأصلِ الذي لا يـبقى - بالإضافة إليه- إشراقٌ لذلك الانعكاس)).."[26] فالمحبوب يتجلى في الصور، وهذا ما عبر عنه ابن عربي بقوله:

إذا تجلـيتَ لي في أنثى أَهـيم بها          ولو تجليتَ لي في أقبح الصورِ

لعاد [قُبْح]* الذي جعلت مظهركم      عندي وفي نظري من أحسن الصورِ

تبارك الله في مَجلاه نـعـرفـه                ولو جـهلناه كـنا مـنه في ضَرَرِ

هو المُشاهَدُ في ذات وفي صـفة           في عالم الأمر والأفلاك والـبشر[27] 

وعبَّر عن نحو ذلك بقوله :

إنّ الإله له تجلّ في الصور                      عند الشهود لمن تحقق بالنظر[28]

فالجمال الإنساني انعكاس للجمال الإلهي، وقنطرة لبلوغه، وليسَ تَعَلّـقُ الجزري أيضاً بالجمال الإنساني سوى بلوغ جمال الخالق، كما كان تعلُّق (زليخا) بـ(يوسف)، وقد قال مؤكداً على نهجه هذا:

Wellah  ji herdû 'aleman min husnê canane xered

Lew min ji husna dilberan her sun'ê rehmane xered 

[891- العقد الجوهري] 

[واللهِ، غرضي من العالَمَيْنِ هو حسن الأرواح، لذا فإنني من حسن المحبوبات أبتغي صُنْعَ الرحمن]

انشغل الجزري بجمالٍ إنساني اتخذه مرآةً ينعكسُ عليها قَبَسٌ من نور الله (ذي الجمال والجلال)، فما كان له غـير التصريح بما شاهده في المرآة التي نظر إليها، وهي مرآة الحسن الإنساني، قال:

Min nezerek li husn û cemala te kir

Ayîneyek dî me ji nûra Celîl 

[396- العقد الجوهري]

[ألقيت نظرة على حسنك وجمالك، فرأيت مرآة من نور الجليل]

شاء الحقُّ، بأمرِ (كُنْ)، أن يرى [الحقُّ] عينَه [ذاتَه] في كَوْنٍ جامعٍ، فأوجد العالَمَ كمرآةٍ غيرِ مَجْلوَّةٍ، ثم اقتضى الأمرُ (أي الحكمُ الإلهيُّ أو الحبُّ الذاتيُّ الذي كان منشأً للرؤية المطلوبة) جلاءَ مرآةِ العالَمِ، أي الوجْهِ الذي يلي الحقَّ..وكان أوجدَ العالَمَ كلَّه وجودَ شبَحٍ مُسَوّى لا روح فيه، فاقتضى الأمرُ جلاءَه، فكان آدمُ عينَ جلاءِ تلك المرآةِ، وروحَ تلك الصورةِ، ليحصلَ المطلوبُ من تلك الصورةِ؛ وهو رؤيةُ اللهِ ذاتَه بها، فإنه بدون الجلاءِ ماكان ليحصل هذا المطلوبُ[29].

ولهذا توسَّل الجزري بالجمال الإنساني، وسلك في ذلك مسالك متشعبة، وقد تمثلَ ذلك التوسُّل أحياناً في التمتع بالنظر إلى وجوه (الغِلمانِ/المُرْدِ) الجميلة لممارسة طقوس التأمل المؤدية إلى الوجد والجذبة على طرائق كثير من الصوفية الذين أباحوا هذا النمط من التأمل، وهو ما ظهرت صور منه لدى الجزري أيضاً، ومنها أنه قال:

Muxbeçe yên meyfiroş her seherê tên sema

Badexoran noşi noş mane li dorê cema 

Hin gulê bo 'enber in hin di şêrîn esmer in

Hin guherê daney in mišli suheylê sema 

Hin zerîne pur sur in ser bi per in dêm dur in

Min ku di çerxê we dî sebr û qerarim nema 

Sebr û qerarim ku bir can û ceger hûr dikir 

Zulmê weh reng kê dikir can dibir û dil teba?! 

[21-22- العقد الجوهري] 

[يحضر المُرْدُ الحسانُ نادِلو الحانةِ حفلةَ الرقصِ كلّ سَحَرٍ، والمدمنون الشاربون يجتمعون حولهم بالتذاذ. قِسْمٌ منهم وَرْدٌ عَنْبريُّ الرائحة، وقسم آخر ذو بَشَرة سمراء حلوة، وقسمٌ حباتُ الجواهر يشبهون سهيل السماء، وقسمٌ كأنه حُورٌ ذوات جاذبية وغنج، وخدود درية. عندما وقع نظري على ذلك فقدت صبري وقراري، إذ أخذَتِ الحبيبة مني صبري وقراري، فإنها طحنت قلبي وكبدي، فمن ارتكب ظلماً كهذا، بأن أخذ الروح وجعل القلبَ يعقب الروح في السبي؟!] 

 

 

 

[1] - ترجمان الأشواق: 39

 

[2] - فلسفة التأويل: 153

 

[3] - الصفحة (119) من مخطوط (سيدايى حج موسى) بدلاً من (we) في أول عجُز البيت الثاني (في العقد الجوهري) وردت (di).

 

[4] - الفتوحات المكية: 71/2

 

 [5]- شرح فصوص الحِكَم: 38

 

[6] - فلسفة التأويل: 158

 

 [7]- الفتوحات المكية: 468/2

 

[8] - الفتوحات المكية: 125/2

 

[9] - الفتوحات المكية: 122/2

 

[10] - فكرة الألوهية/ط3: 304

 

[11] - رسائل إخوان الصفاء: 50-45-55/1

 

[12] - مقدمة ابن خلدون: 231/2

 

 [13] - الفتوحات المكية: 345/2

 

[14] - رسائل إخوان الصفاء: 457/2

 

[15] - الفتوحات المكية: 124- 125/2

 

 [16]- معجم المصطلحات: 43

 

[17] - الحب والمحبة الإلهية: 34

 

[18] - ديوان ابن عربي: 492

 

[19] - الفتوحات المكية: 269/4

 

 [20]- شرح فصوص الحِكَم: 289

 

[21] - ليلى والمجنون: 260

 

[22] - الحب والمحبة الإلهية: 34

 

[23] - ديوان ابن عربي: 508

 

[24] - يبدو أن الوزن العَروضيَّ فيه خلل يعود إلى النقل لا إلى الجزري الذي يعرف بدقته في الحفاظ على وزن الشعر. 

 

[25] - ديوان ابن الفارض: 35- 36 

 

[26] - ليلى والمجنون: 261- 262

 

[27] - ديوان ابن عربي: 216. وردت في الديوان *[القبج]:أي الحجل.  ولعل المراد (القبح) بالحاء وليس بالجيم، وهو ما يقابل الجمال والحسن، وهو ما اعتُمِدَ...

 

[28] - ديوان ابن عربي: 239

 

[29] - شرح فصوص الحِكَم: 23- 24

تعليقات
* لن يتم نشر هذا البريد الإلكتروني على الموقع.
تم عمل هذا الموقع بواسطة