عنوان القصيدة (ما دواء قلبي؟) عتبةٌ للنص توحي بعوالِـمَ رومانسيَّة مشحونة بروح صوفية اكتسبها الشاعر من قراءاته المعمَّقة للخطاب الشعري الكردي الصوفي. والعنوان مَدخلٌ يحمل مؤشراتٍ تعكِس قَـلَـقَ الشَّاعرِ وحالةَ الـتّـيهِ التي أفْـقَدَتْـه صحَّته وتوازُنَه، حيث بدأ بالسؤال عن دواء قلبه، ثم باشر خطابه وكأن المعشوقة ماثلةٌ أمامه، أو أنه كان يسعى إلى محاورة خيالها، ليخبرَها عن أحواله، ويعبِّرَ عن تَـذَلُّلِه الشديدِ لها، وهي الجديرة بأن يقبِّل ترابَ بوّابات حصونها، ليشفى قلبه، وتهدأَ روحُه..
تكاد القصيدة تكون عالماً من صور الألم والحسرات التي ردّدها شعراء الحبِّ، حيث أحالَ الشاعر معشوقته قِـبْلةً توجَّهَ إليها لأداء طقوس عشقٍ تَمَكَّنَ من قلبِه، فلم يكن لديه ما هو أغلى من الروح يقدّمها رخيصة لها، ولا حاجة في ذلك إلى السيف، لأن كلمة واحدة منها لا يمكن أن تُـرَدَّ، فيكفي أن تقول له: "مُتْ" حتى يُستجابَ لأمرها بلا تردُّدٍ...وهذا من أسمى أنواع المثالية في الحب، حيث ترتقي فيها المعشوقة إلى مقامات الأمر والنهي، وهي مقاماتٌ عرفها الخطاب الصوفي عند الجزري وسياپوش وماجن ونالي وغيرهم من الشعراء الكرد الصوفيين، ومن الشعراء العرب كابن الفارض وابن عربي والحلاج، ومن الفرس كحافظ وسعدي الشيرازِيَّــينِ.
لعلّ ذلك هو ما جعل خطاب القصيدة يمتاز بالبوح والهمس الرقيقينِ، وبالجمل الطويلة، والأفعال التي تدلُّ على الطيران والتنقُّل و الحركة التي تدل على الحيوية إلى أن ينتهي ذلك كلّه بفعل الموت بعد صخبٍ طويل امتدَّ على طولِ القصيدة، لتنتهي عند معادلة طرفها الأول (مُتْ) الذي يمثل فعل الأمر القطعي الصادر من جهة عليا، وطرفُها الثاني (أموتُ) الذي يمثل ردة فعلٍ تليق بمكانة وقدرة الطرف الأول على إنجاز فعل الموت بأمر لا يمكن ردُّه، إلا أن تلك المعادلة تسبقها عمليات توحي بحركة بحثٍ ينجزها الشاعر على مستوى الخطاب اللغوي الشعري الذي يترجم أحواله لكنه خطاب لا يلبث أن ينتهي بما يفجع فعل القراءة حيث تنتهي القصيدة نهاية رومانسية تراجيدية يحلُّ بعدها صمتٌ أعقب صخب الشاعر في حركته تلك وهو لا يعرف السَّكينة والهدوء. وقد استعان الشاعر بصيغة شرطية في البيت الأخير وهي صيغة يتخللها استدراك بـ (لكنْ..) حتى يأتي جواب الشرط بإباحة قتله مادام هذا القتل بلفظة من شفتي محبوبته التي رأى أن موته بأمر منها هو مبتغاه وهو مراده.
استخدم الشاعر في هذه القصيدة لغة رقيقةً، اهتمَّ فيها بموسيقا الأصوات (الكردية)، ودلالاتها في أبنية العلامات اللغوية التي وظَّفها بـتِـقْنِـيَّةٍ فـنِّـيَّة قلَّما تبلغُها معظمُ قصائدِ الشاعرِ نفسِه...ولعلَّ اهتمامَه بالأصوات لم يكن بالأمر الاعتباطي، بل يمكن أن يجدَ القارئُ تعليلاً له في الدلالات التي تنتجها علاقات الوحدات داخل النص من جهة، وبينها وبين الشاعر من جهة ثانية، حيث يتوارى الشاعر خلْفَ العباراتِ والتراكيبِ وقد افترضَ أن قراءاتٍ ما قَدْ تـترصَّدُه. ولعلَّ تعقُّبَ الشاعر وما يتعلق به في أثناء النص لا يعني الاستسلام لسلطة الشاعر، كما لا تعني القراءة إعلاناً لموته المفترض وفق ما نادى به (رولان بارت) إنما يعني إنجاز توافقٍ بين سلطتي القراءة والنصِّ من جهة، وبينهما وبين سلطة المؤلف من جهة أُخرى.
[1] - جگرخوين: الديوان الأول. ص 121- ط 1945. أو ص 197- ط 1992 استنبول.