11 Dec
هذا ما قاله الجزري عن الحب والجمال

هذا ما قاله الجزري عن الحب والجمال.. وهذا ما رآه (خالد جميل محمد) في كتابه...

‏٣١ يوليو ٢٠١١‏


الحب والجمال:

الحبُّ الروحاني يدوم في توهجه أبداً وهو يحايثُ نور الجمال الإلهي المنـزَّه عن حدود الظرفية الزمانية المكانية، في سرمديته وامتداده المطْلق من اللابداية إلى اللانهاية،  وكما أن الذات الإلهية لا تفتقر إلى علة، وأنها (هِيَ) (هِيَ) عينُها و(هي) نفسُها عِلَّةُ نفسِها، فإن الحب الذي تكون هذه الذاتُ موضوعَه هو حبٌّ ملازمٌ الذاتَ وصفاتِها في جمالِها وجَلالِها، ولذا فإنَّ معرفة معنى الحب تتوقف على معرفة معنى الجمال، وإنّ حقيقـتَه تستدعي معرفةَ حقيقةِ الجمال الذي يعكس جوهر الحب وطبيعتَه، قال:

Me'ne ya 'işqê dizanê ayeta husnê bixûn

Da tû herfên muhbetê yek yek ji hev kî imtiyaz 

[264- العقد الجوهري]

[حتى تـعرِفَ معنى العِشقِ، اقرِأْ آيةَ الْحُسْن، لتفُكَّ حروفَ المحبة حرفاً حرفاً بدِقّة]

أكَّد الجزري على العلاقة الوثيقة بين الحب والجمال، حيث يَشترط لمعرفة المعنى الحقيقي الدقيقِ للحبِّ معرفةَ علامات الجمال. كما جعل الجمال سبـباً للحبِّ، انطلاقاً من الخبر الوارد في صحيح مسلم عن النبي أنه قال:"إن الله جميل يحب الجمال" وهذا مذهب (ابن عربي) الذي قال بأن المحب لا يرى محبوبه إلا أجمل العالم في عيـنه، وأن الجمالَ محبوبٌ لِذاته. والله صانع العالم، أوجده على صورته، وهو جميل، فالعالم كله غاية في الجمال، فلولا جمال الحق ما ظهر في العالم جمال، ولولا حُسنُ العالم ما عُلِمَ حُسن القديم[1]. وكذا رأى الجزري أنَّ الجمال هو الذي أوجد الحب الذي هو أصل العالم، على حدِّ تعبيره التالي:

Husnê hub anî zuhûrê 'işqe eslê 'alemê

Eslê eşya da bizanî wan çi esl û made bû  

[616- العقد الجوهري (الهامش)]

[الحُسْنُ أظهرَ الحبَّ، والعشْقُ هو أصْلُ العالمِ. هذا! حتى تعرف أصل الأشياء وطبيعتَها]

وبناءً على العلاقة بين الحب والجمال، ربط الجزري بين الحب الروحاني الذي أعلن انتماءه إليه وبين الجمال الإلهي الذي أكَّد أنه تعلَّق به، حتى أصبح هذا الحبُّ عُمْدة خطابه الشعري ومحورَ موضوعاته كلِّها. فلا غرابة أن يقصر الجزري غايته على هذا الجمال الإلهي، الذي نعته بأنه (جمالٌ مقدَّسٌ) وهو الذي لم يَـرَ لنفسه غايةً سواه، بل هو الذي رأى أن الحب لا قيمة له دون ذلك الجمال، كما أن فيض كأس العرفان ينضب أو يفقد قيمته دون جمال حقيقي يمده ويسمو به ليكون في أعلى مراتب المثالية والكمال، قال:

Me ji bil husn û cemalê çi xered?

Bê cemalê ji peyalê çi xered?

Ger ne teşbîhê du birhên te bitin

Me di 'îdan bi hilalê çi xered?

Ger ne qesta dil û canê me dikit 

Me ji wê şox û şepalê çi xered?

...............

Qestê wehdet dikirit rûhi bi rûh

Wer ne 'aşiq ji wisalê çi xered?

...............

Ne cemala te tecellî bikirit

Me ji xoban bi cemalê çi xered?

[314-316- العقد الجوهري]

[أي غرض لنا سوى الحسن والجمال؟ فَلَوْلا الجمالُ أيُّ غَرض لنا من الكأس؟. إن لم يكن مشابهاً لحاجبيك، فأيُّ غرض لنا من الهلال في الأعياد؟. إن لم يكن المقصدُ قلبَنا وروحَنا، فأيُّ غرض لنا من تلك الحسناء الجميلة؟. إن لم يكن بهدف وحدة الروح مع الروح، فما غرض العاشق من الوصال؟. إنْ لم يكن من أجل تجلّي جمالِك، فما غرضنا من جمال الحسناوات؟] 

يؤكد الجزري على أن الحب هو غايته، وأن الجمال الذي هو موضوع هذا الحب ليس جمالاً ظاهرياً شكلياً، بل هو جمال الباطنِ، الجوهرِ والمعنى، فقد رأى أن الغرضَ من الكأس هو الجمال الحقيقي، ولعل المقصد من الكأس في هذا السياق هو جملة من المعاني التي اصطلح عليها الصوفية؛ كأنْ تكونَ الكأسُ رمزاً للحبِّ الروحاني الذي يصل بالمحبِّ إلى حالات الغيـبوبة والسُّكْر في حضرة الجمال الإلهي، أو قد تكون الكأس رمزاً لوجه المحبوب، أو للفيض الذي ينتج عن تجلي الجمال الإلهي، أو رمزاً للمعرفة التي تُعَبِّرُ عن ذوق الصوفي، أو رمزاً للقلب بوصفه وعاءً للمعرفة بعد إنكاره دَوْرَ الحواسِّ فيها، أو بوصف القلب مهبطاً للإلهام، لأنه مرآة العارف يتجلى له فيها جمال محبوبه. أما تشبيه الحاجبين بالهلال في ليالي الأعياد فهو يتجاوز التشبيه الشكليَّ الظاهريَّ، من حيث التقويس الملحوظ على كلا الطرفين، لأنه لم يذكر هنا هلال ليالٍ عادية، إنما ذكر هلال ليالي الأعياد، والتي تبشِّرُ رؤيتها بأن العيد قريبٌ، وفي العيد يلتقي الأحبَّة ويتحقق الوصالُ، وتزيد الفرحة والسعادة التي تكون ثمرة الوصال واللقاء، وهذا يقابله في جانب آخر أنَّ رؤية الحاجبين أيضاً تبشر بلقاءٍ قريبٍ ووصالٍ يحقق السعادة للمحبِّ بعد رفع الحجب عن وجه الحبيب، حيث تتم المكاشفة والمشاهدة.

قد لا تكون ثمة مبالغةٌ في هذا التأويل إن أدركْنا أن الجزري بـيّن في موضع آخر أنّ الهلال لا يشبه الحاجبين في الشكل، وإنما الشبه هو في المعنى الباطن، حتى أنه أنطقَ الهلال ليقرَّ بأنه، في تقويسه، أدنى من أن يكون مشابهاً لحاجبَي المحبوبة، وأنه في ذلك التقويس أقربُ إلى نعل الفرس، وفي ذلك من التقليل الشديد من قيمة ومكانة الشكل الظاهري، ومن السموِّ بالمعنى الباطني لذلك التشبيه، قال:

Min go mehê new: çaşitiyê ebru wê yarî!

Go: min çi hede?! şebhetê ne'lê feres im ez 

[253- العقد الجوهري]

[قلتُ للهلال الجديد: إنك في شكل حاجب الحبيـبة!. قال: حاشا حاجب الحبيبة. ما بَأْسي وجسارتي؟! فأنا شبيه بنعل الفرس] 

هدفه من الجمال هو الوقوع في الحب الذي يودي بالقلب والروح، لذلك فإن التعلق بالجمال يهدف في النهاية إلى الحب. وكما أن المحبة تتطلب الجمال، كذلك الجمال يتطلب المحبة بوصفهما متلازمين، فالجمال لا يتجلى ما لم يكن العشق مرآة تعكسه، ولهذا أنكرَ الجزري وجود واحدٍ منهما (الحب أو الجمال) دون الآخر. فالحب هو حب الجمال، والجمال هو سببُ الحبِّ ومقصدُه وغايتُه، والمحبون وحدهم جديرون بالحظو به، وهم وحدهم يعرفون أن الوصول يشترط الحب الحقيقي، فهو سِـرٌّ علْوِيٌّ، لا يمكن أن يترجَم بالقول والكلام. إن الجمال يُعْرَف بالحب وحده. فوسيلة المعرفة هي القلب، وإذ جعل الجزري المعرفة بالقلب، فقد أكد أن خلوَّ القلب من المحبة هو عمى البصيرة، ومن دون البصيرة لا تتحقق المعرفة، بل تهيمن ظلمة الجهالة والعماء على الباطن.

كان الجمال أزلاً قبل أن تقول الأرواح: "بلى" جواباً عن قول الله: "ألست بربكم؟" وهذا يعني أن الحب الروحاني سابق في وجوده على الأكوان، الأزمان، الأفلاك والأعيان، قال:

Ellah sehergaha ezel yelmûmi 'işqê şu'le da

Nûra cemala lem yezel zatê tecella ya xwe da 

Husn û cemalê xwest evîn vêkra di yek zatê civîn 

Nûra qedîm bû 'işq û vîn wan lêki naz û 'işwe da

Husn û mehebbet her hebû (heq)'aşiqê zatê xwe bû

Muhtacî husnek dî nebû neql û riwayet pê we da

Husn û mehebbet zatik in me'şûq û 'aşiq latik in

Lê sûret û mir-atik in her yek di me'na yê xwe da

Husn û cemal û 'işqe ye aram di perdê da neye

Mehbûbi lew hetta heye nabit di perde û xilwe da

 [847-848-849-856 العقد الجوهري]

[منذ سَحَر الأزل أشعل الله سراجَ العشق، حيث كان تجلي الذات في نور الجمال الأبدي، وقد استدعى الجمالُ المحبةَ، فاجتمعا معاً في ذات واحدة، وصار النور القديم عشقاً، وأخذ كلٌّ منهما يظهرُ غنجاً ودلالاً. فالحسن والمحبة كانا موجودَيْنِ أزلاً، حيث كان الحقُّ عاشقاً ذاتَـه، غيرَ مفتقر إلى حسنٍ آخرَ، كما جاء ذلك بالنقل والرواية الصحيحة. فالحسن والمحبة هما ذاتٌ واحدةٌ، والمعشوق والعاشق هما معبودٌ واحدٌ، كلٌّ منهما في معناه الخاصِّ هو صورةٌ ومرآة للآخَر. الحسن والجمال يلازمان العشقَ، وليس للعاشق سَكِينةٌ من وراء الحجاب. وما دام المحبوبُ موجوداً فلا بدَّ ألا يكون وراء الحجب وفي الخلوة] 

أشعل الله سراج الحب من سَحَر الأزل، وأظهرَ نور جماله الأبدي إذ تجلى بذاته لذاته في وجوده الغني عن سوى ذاته، حيث كانت الصفات والأسماء في وحدتها المطْلَقَة ولم تكن ثَمَّ مرتبة الألوهة التي اقتضت الأسماءَ والصِّفاتِ، وهذه تطلبت الألوهةَ، والألوهةُ تطلبَتْها "فالأسماء الإلهية تعيَّنت بظهور أعيان الموجودات بعد أن كانت باطنة في الذات الإلهية، فالأعيان هي التي أظهرت الأسماء. والأسماء - من جانب آخر- هي التي توجهت على الموجودات فأظهرتها من ثبوتها العدمي"[2] وهذا ما أراد الجزري تبيانه من خلال التأكيد على أن الذات الإلهية لا تفتقر إلى العالم، فهي غنية عنه، كما أن الواحد لا يفتقر إلى الاثنين، إنما تفتقر الاثنانِ إلى الواحد، لأن الاثنين هي واحدٌ أضيف إليه واحدٌ، ولولا (الواحدُ) ما كان (الاثنان).

الذات مكتفية بذاتها، والجزري بذلك ميز بين الذات الإلهية وبين مرتبة الألوهة، إذ الألوهة وسيط أو برزخ بين الذات الإلهية والعالم. وهي تقابل كلاً منهما بذاتها فتـتوسط وتفعل بينهما بذاتها. هي الفاصل والوسيط الوجودي والمعرفي في الوقت نفسه، فلا فعل للذات في هذا العالم إلا من خلال هذا الوسيط، ولا تتعلق من جهة العالم أي معرفة بالذات إلا من خلال هذا الوسيط أيضاً[3].

جعل الجزري الحبَّ عنواناً للجمال، وأداة لمعرفته، ولمعرفة معنى الحب بدقة لابد من قراءة آية الجمال، لأنهما من مصدر واحد، قال:

Rohniya çehvên (Melayî) xaliqê husna te dayî

Hub tinê da min gedayî  husn û hub yek çeşneye

[574- العقد الجزهري]

[يا نور عينَي (الملا)، إن الخالق الذي أعطى حُسْنَكِ، منحني وحدي أنا - الفقيرَ السائلَ- الحبَّ، فالحسن والحبُّ من مصدرٍ واحدٍ]

الحسن والحبُّ كلاهما هِبتانِ من الخالق، وهما يشتركان في صفة الكمال، ومتلازمان، والحبُّ سِرٌّ علْوي، لا يمكن أن يترجم بالقول والكلام. فإذا كان الحب عصياً على الشرح والتعبـير، فإن نعوت الجمال لا يمكن إحصاؤها، نقلها، تدوينها وإعرابها، قال مبيناً التماثل بين الحب والجمال في هذا السموِّ عن الوصف والتعبير:

Şerhi halê xemi 'işqa te ji kû tête nivîsîn

Medhê ewsafê cemala te kuca tê reqemê?!

[684- العقد الجوهري]

[شَرْحُ حالِ هموم عشقِك أنى لها أن تُكتَبَ؟! ومدْحُ أوصافِ جمالك أنى لها أن تُحصى؟!] الاستفهام إنكاري، ويقصد به النفي.

فالحب والجمال كلاهما يَسْمُوانِ على الوصف، لأن الحب يتوقف على الجمال، وكذا الجمال يتوقف على الحب، فإذا عجز التعبير عن الإحاطة بأحدهما فإنه بلا شكٍّ سيكون عاجزاً عن الإحاطة بالآخر، قال:

Ji husna bê nişan nadî nişanek

(Nişanî) ger ji dil nekra te perhîz

[275- العقد الجوهري]

[إنك، يا (نِشاني)، لاتستطيع أنْ  تُـبَيِّنَ علامةً واحدةً للحسْنِ المُـنَزَّهِ عن العلاماتِ، إنْ لم تكن قد طهَّرْتَ قلبك وكيانَك حقاً]

تطهير القلب شرطٌ لمعرفة العلامات الحقيقية للجمال المنـزَّه عن النعوت والعلامات المألوفة. وليست إشارة الجزري إلى العلاقة المتبادلة بين الحب والجمال عرَضية، أو في جانب واحدٍ، إنما هي نظرةٌ/نظريةٌ تقومُ على أرضية فلسفيةٍ في ترجمة العلاقة بين المحبِّ والمحبوب/الجميل، وهي العلاقة التي تدلُّ على التماهي بين طرفي هذه المعادَلة، مَثَلُهما في ذلك التماهي مَثَلُ البلبل والوردة، حيث إن البلبلَ (المحبَّ) في جوهر ذاتِه هو الوردةُ، والوردةُ (المحبوبُ) جمالها من عشق البلبل، رغم أنه استخدم البلبل في مواضع أُخرى - سبقت الإشارة إليها- مثالاً للحبِّ العرَضيِّ القابل للزوال والفناء، قال:

Ger çi bulbul cewherê zatê gule

Lê gulê rewneq ji 'işqa bulbule

[580- العقد الجوهري]

[إنْ كان البلبلُ هو جوهر ذات الوردة، فإنَّ رونق الوردة هو من عشق البلبل]

فالجمال والحب متلازمان في وجودهما الأزلي السابق على كل وجود. والقِدَمُ هي الصفة التي تجمعهما، لذا فإن كلاً منهما يشترط وجودَ الآخَر، قال:

Ger husn û mehebbet bi seraperde i can bin

Geh şah û geda, geh bi xwe Mehmûd û Eyazin

[439- العقد الجوهري]

[إنْ كان الحسن والمحبة روحانيان بالخيمة الملوكية التي يكونان بها، فإنهما يكونان كالسلطان والرقيقِ المسكينِ حيناً، وحيناً يكونانِ كالسلطان محمود وغلامِه أياز]

لعله يقصد بذلك أن مرتبة الألوهة التي كنّى عنها بـ(الخيمة الملوكية) تجمع كلاً من المحب والمحبوب، وهي المرتبة التي تتوسط مرتبتَي الوجود: وجودِ الذات المطْلَقة المنـزَّهة، ووجودِ العالَم. ولأجل ذلك اجتمع فيها [في تلك الخيمة/المرتبة] السلطانُ الذي كنّى به عن المحبوب (الله)، وغلامُه أياز الذي كنّى به عن المحبِّ (الإنسان).

فالحسن والحب عندما يدخلان في عوالم الروح المُطْلَقةِ، يستدعي أحدهما الآخر، حيث إن جمال المحبوبِ (السلطانِ) يجذب الحبَّ (المسكينَ السائلَ) إليه. أو يكون (السلطانُ) هو الحبَّ - وقد مثّل له بالسلطان محمود - أويكونُ (المسكينُ) هو الجمالَ - وقد مثّل له بالغلام - في تبادل الأدوار بين الحب والجمال في طلَبِ أحدهما الآخَرَ واستدعائه، أو ضرورته وأهميته له.

ولعل هذه الوحدة القديمة بين المحب والمحبوب هو الذي استـند إليه الجزري ليشترط لمنـزلة الوصول - دون حُجُبٍ تفصل بينهما- أن تمَّحيَ ذاتُ المحبِّ في ذات المحبوب، وأن تُرفَعَ بينهما كلّ الحوائلِ المانعةِ من فَناء المحبِّ بالمحبوب، حتى ينجح سَفَرُ المحب للبقاء بذات محبوبه، بعد الفَناء عن ذاته وصفاته الخاصة به، لتنتفي (أنا) المحب في حضرة (أنت) المحبوب، ثم تنـتفي (أنت) لتـتحول كلتاهما إلى (أنا) واحدةٍ، في وحدة لا يعود فيها لـ (أنا) و(أنت) وجود، إنما تبقى (أنا) كُـلّـيّةٌ موحَّدةٌ لا اثنينيةَ فيها بين المحبِّ والمحبوبِ، حيث يَمَّحي المحبُّ عن ذاته ليتخلّص من حجاب تلك الذات ويدخلَ في مقام الفناء ثم في مقام البقاء، وفي ذلك دلالة صريحة وواضحة على المنهج الصوفي الذي سار عليه الجزري في (الحبِّ)، قال:

'aşiq û me'şûqi, da wasil bi yek bin, bê hicab

Mehwi bû, bizzati 'aşiq, lew di 'işqê perde bû

Lew di 'işqê da fenabû, da bibit baqî bi dost

'aşiqê fanî, nebû wasil,   heta baqî nebû

[620- العقد الجوهري]

[حتى يَصِلَ العاشقُ والمعشوقُ أحدُهما بالآخَر دون حجاب، فإن العاشق يمحو ذاتَه التي تكُونُ حجاباً في العشق، لذلك فَنِيَ العاشق ليـبقى بمعشوقه، لكن العاشق الفاني لا يكون واصلاً إلا إذا صار باقياً]

 فهذا تأكيد على الوحدة القديمة الأزلية بين الحبِّ والجمال، أي بين المحبِّ والمحبوب، حيث رأى الجزري - وقد أصابته الهِزَّة والدهشة إزاء الجمال الإلهي- أنَّ الله، من الأزل وقبل أن تقول الأرواح (بـلى)، أوقع قلبه في حب الجمال، إذ كشف له علامات ذلك الجمال قبل أي وجودٍ مُحْدَث وقبل أي خلقٍ، قال:

Ellah di ber (qalû: belê)

Da yexme kit qelbê Melê

Avêhte çerxê cedwelê

Ev renge 'enber bari xet

[323- العقد الجوهري]

[من قَبْلِ "قالوا: بلى"، ألقى اللهُ في فَلَكِ جَدْوَلِ الإيجادِ هذا النوعَ العنبريَّ المعطّرَ من الخطِّ، حتى يوقِعَ اللهُ قلبَ الملا (الجزري) في الحب]

[من قَبْلِ "قالوا: بلى" حتى يوقِعَ اللهُ قلبَ الملا (الجزري) في الحب، ألقى في فَلَكِ الإيجادِ هذا النوعَ العنبريَّ المعطّرَ من الخطِّ]

وهو يقصد بذلك أن الله أوجد الجمال ليقع قلب الجزري في الحب الذي جعله شرطاً لتجلي الجمال، ولولا الحبُّ ما كان الجمالُ لِـيُعْرَفَ، حيث إن الحبَّ في معناه وجوهرِه هو تذوُّق الـجَمال، قال:

Husni  bê ayîne ê 'işqê tecellî nadit

'işqi Mehmûdi di me'na nemekê husna Eyas

[136- دوسكي] [281- العقد الجوهري] 

[لا يتجلى الحسن دون مرآة العشق، فعشق محمود في المعنى هو تذوق حسن أياز]

يتوقف معنى الحبّ على معرفة الجمال، ومن ينشد معرفة الحب لا بد أن يقرأ دلائل وعلامات الجمال وآياته التي تدل عليه في عالم الأرواح والمادة، قال:

Husn û hub bê yek du nabin dê bikin şah û geda

Nûri nadit şu'le ya Mehmûdi bê şem'a Eyaz

[263- العقد الجوهري]

[الحسن والحب لا يكون أحدهما دون الآخر، فهما كالسلطان والخادم، فلولا شمعة الخادم أياز ما كانت شعلة السلطان محمود تنير]

شأن الحب والجمال كشأن السلطان والخادم، فالحب يدل على الجمال، والجمال هو سبب الحب، وهو الذي أوجبه، وسلب من المحب إرادته وحريته، قال:

Husna hebîb û lutfi yar      avête dil 'işqa xedar

Lew selbi kir jê ixtiyar wê husnê ev îcabi da

[16- العقد الجوهري]

[حسن الحبيب ولطفه، ألقى في القلبِ العشقَ الشديدَ، لذا سلب منه الاختيارَ، فالحسن أوجب هذا الأمرَ]

فالعشق هو الوجه الآخر من الجمال، لأنه امتداد للجمال من جهة الانعكاس في القلب، فالجمال بصفته الأزلية استدعى حبّاً أبدياً دون وسائط، لأنه بلغ القلب بطريقة حَدْسيّة فيها من الإلهام العلوي الذي ترجمه الجزري بتعبـيره الآتي:

Meşşate ê husna ezel çengali zulfan tabi da

Da 'işqi hilbit pêli pêl qelbê me bê cellabi da

[14- العقد الجوهري]

[مزين الحسن الأزلي نصبت من الزلف المعقوفة شِراكاً لينبعث العشقُ موجاً موجاً، ويقع قلبنا في تلك الشِّراك دون جَلاّبٍ أو وسيط]    

كأنه يريد القول بأن الله أبدع العالم بعنايته الأزلية الجميلة، وفق القاعدة التي تنص على أن الجميل أظهر علامات جماله، فاستوجب ذلك الظهورُ الْحُبَّ. كما أن انبعاث العشق "موجاً موجاً" تأكيد على إخراج العالم من العدم إلى الوجود بحركة حبٍّ على طريقة تعبير (ابن عربي) كما سبقت الإشارة إلى هذا المعنى.

 

 

[1] - الحب والمحبة الإلهية: 33

 

[2] - فلسفة التأويل: 379

 

[3] - فلسفة التأويل: 57

تعليقات
* لن يتم نشر هذا البريد الإلكتروني على الموقع.
تم عمل هذا الموقع بواسطة